- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح77) "كتاب: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" (ج2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّابِعَةِ وَالسَّبعِينَ, وَعُنوَانُهَا: "الاتِّجَاهَاتُ الوَطَنِيَّةُ فِي الأدَبِ المُعَاصِرِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتين: الرَّابِعَةِ وَالسِّتِينَ, وَالخَامِسَةِ وَالستينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "أمَّا الحَضَارَةُ الإِسْلامِيَّةُ فإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ هُوَ النَقِيضُ مِنْ أَسَاسِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وتَصْوِيرُهَا للحَيَاةِ غَيْرُ تَصْوِيرِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ لَهَا، ومَفْهُومُ السَعَادَةِ فِيهِا يَخْتَلِفُ عَنْ مَفْهُومِهَا في الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ كُلَّ الاخْتِلافِ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: فِي هَذِهِ الحَلْقَةِ نُتَابِعُ مَعَكُمْ حَدِيثَنَا الَّذِي كُنَّا قَدْ بَدَأنَاه عَمَّا كَتَبَهُ الدُّكتُور مُحَمَّد مُحَمَّد حُسَين فِي كِتَابِهِ "الاتِّجَاهَاتُ الوَطَنِيَّةُ فِي الأدَبِ المُعَاصِرِ" فَهُوَ - رَحِمَهُ اللهُ - من المتأثرين بِفِكْرِ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوضُوعُ "القَومِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ", يَقُولُ المُؤَلِّفُ فِي الصَّفحَتَينِ: المِائَتَينِ وَالعِشرِينَ, وَالمِائَتَينِ وَالحَادِيَةِ وَالعِشرِينَ: فِي كِتَابِ: "إِلَى أينَ يَتَّجِهُ الإِسلامُ؟" (whither Islam) الَّذِي ظَهَرَ عَامَ 1930م. وَالَّذِي اشتَرَكَ فِي تَألِيفِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ المُستَشرِقِينَ المُختَلِفِي الأجْنَاسِ, وَأشرَفَ عَلَى جَمْعِهِ وَتَألِيفِ بُحُوثِهِ وَالتَّقدِيمِ لَهَا وَالتَّعقِيبِ عَلَيهَا المُستَشرِقُ الإِنجلِيزِيُّ, وَأحَدُ مُستَشَارِي وَزَارَةِ الخَارِجِيَّةِ الإِنجلِيزِيَّةِ هـ.أ.ر.جِيب (Gibb .R .A .H). وَقَد كَانَ كَذَلِكَ عُضوًا فِي مَجمَعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالقَاهِرَةِ, وَاعجَبُوا مَعِي لِذَلِكَ الوَضعِ الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ فِي العَالَمِ. "يَتَسَاءَلُ "جِيب": إِلَى أيِّ مَدىً أصبَحَ العَالَمُ الإِسلامِيُّ غَرِيبًا؟ وَيُجِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِعَرْضِ نُفُوذِ الدُّوَلِ الغَربِيَّةِ فِي العَالَمِ الإِسلامِيِّ بَلَدًا بَلَدًا. فَيَقُولُ: إِنَّ تُركِيَّا قَدِ انقَلَبَتْ إِلَى بَلَدٍ غَربِيٍّ كَأعنَفِ مَا يَكُونُ الانقِلابُ. وَأمَّا فِي شِبهِ جَزِيرَةِ العَرَبِ فَإِنَّ النُّفُوذَ الغَربِيَّ لَمْ يَستَطِعْ أنْ يَضَعَ قَدَمَهُ بَعدُ. وَفِي شَمَالِ إِفرِيقيَا, بَدَأتْ حَرَكَةُ التَّغرِيبِ, وَهِيَ مَاضِيَةٌ فِي طَرِيقِهَا, وَإِنْ كَانَ أثَرُهَا أبْرَزَ فِي تُونُسَ. أمَّا فِي مِصْرَ فَهِيَ تَتَطَوَّرُ فِي هُدُوءٍ بَعِيدٍ عَنِ العُنفِ, وَلَكِنَّهَا تَتَقَدَّمُ تَقَدُّمًا وَاضِحًا فِي هَذَا الطَّرِيقِ. أمَّا العِرَاقُ وَسُورِيَّا, فَهِيَ تَتَّبِعُ خُطُوَاتِ مِصْرَ, بَينَمَا تَتَّبِعُ إِيرَانُ خُطُوَاتِ تُركِيَّا, وَإِنْ كَانَتْ أكثَرَ مِنهَا اعتِدَالاً وَتَوَسُّطًا. أمَّا أفغَانِستَانَ فَقَدْ تَرَاجَعَتْ فِي هَذَا السَّبِيلَ بَعدَ تَجرِبَةِ المَلِكِ "أمَانَ اللهِ خَان" الَّتِي فَقَدَ فِيهَا عَرْشَهُ. وَيَمضِي المُؤَلِّفُ عَلَى هَذَا النَّحوِ فِي تَتَبُّعِ مَا أحْدَثَتِ الحَضَارَةُ الغَربِيَّةُ مِنْ آثَارٍ بَينَ المُسلِمِينَ فِي رُوسيَا السُّوفيتيَّةِ, وَفِي الهِندِ, وَفِي أندُونِيسيَا, وَفِي إِفرِيقَيا, وَيَخْلُصُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أنَّ نَجَاحَ التَّطَوُّرِ يَتَوَقَّفُ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ عَلَى القَادَةِ وَالزُّعَمَاءِ فِي العَالَمِ الإِسلامِيِّ, وَعَلَى الشَّبَابِ مِنهُمْ خَاصَّةً. ثُمَّ يَقُولُ: وَمِنْ ثَمَّ نَستَطِيعُ أنْ نَقُولَ: ... حَسَبَ سَيرِ الأُمُورِ الآنَ ... إِنَّ العَالَمَ الإِسلامِيَّ سَيُصبِحُ خِلالَ فَترَةٍ قَصِيرَةٍ لا دِينِيًّا فِي كُلِّ مَظَاهِرِ حَيَاتِهِ, مَا لَمْ يَطرَأ عَلَى الأُمُورِ عَوَامِلُ لَيسَتْ فِي الحُسبَانِ, فَتُغَيِّرَ اتِّجَاهَ التَّيارِ.
يُلاحِظُ القَارِئُ ضِيقَ "جِيب" بِوُجُودِ المَعَاهِدِ الإِسلامِيَّةِ حَيثُ يَقُولُ فِي المَرجِعِ نَفسِهِ: "وَمَعَ أنَّ الوَحْدَةَ الإِسلامِيَّةَ قَدِ انتَهَتْ مِنَ النَّاحِيَةِ القَانُونِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ, وَمَعَ أنَّ الثَّقَافَاتِ القَومِيَّةَ قَدْ أخَذَتْ مَكَانَهَا فِي المَدَارِسِ, وَمَعَ أنَّ الفَوَارِقَ الاجتِمَاعِيَّةِ قَدْ أصبَحَتْ أكْثَرَ وُضُوحًا, وَمَعَ أنَّ الثَّقَافَةَ الدِّينِيَّةِ التَّقلِيدِيَّةِ قَدْ أصبَحَتْ مَحْصُورَةً فِي عَدَدٍ قَلِيلٍ مَحدُودٍ. مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالمَعَاهِدُ الدِّينِيَّةُ نَفسُهَا لا تَزَالُ قَائِمَةً, وَلا يَزَالُ حُفَّاظُ القُرآنِ وَدَارِسُوهُ كَمَا كَانُوا لَمْ يَنقُصْ عَدَدُهُمْ, وَلَمْ يَضعُفْ سِحْرُ آيَاتِ القُرآنِ وَتَأثِيرُهَا عَلَى تَفكِيرِ المُسلِمِينَ. وَرُبَّمَا كَانَ تَقدِيسُ شَخصِيَّةِ مُحَمَّدٍ, وَمَا يُثِيرُ ذِكرُهُ مِنْ حَمَاسٍ فِي سَائِرِ المُسلِمِينَ عَلَى اختِلافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ أهَمِّ مَلامِحِ النَّهضَةِ الإِسلامِيَّةِ الحَدِيثَةِ. يَستَولِي عَلَى الغَربِيِّينَ وَهْمٌ مُفْزِعٌ مِنْ خُطُورَةِ الكُتلَةِ الإِسلامِيَّةِ يَبدُو فِي قَولِ "جيب": إِنَّ الحَرَكَاتِ الإِسلامِيَّةَ تَتَطَوَّرُ عَادَةً بِسُرعَةٍ مُذهِلَةٍ تَدعُو إِلَى الدَّهشَةِ, فَهِيَ تَنفَجِرُ انفِجَارًا مُفَاجِئًا, قَبلَ أنْ يَتَبَيَّنَ المُرَاقِبُونَ مِنْ أمَارَاتِهَا مَا يَدعُوهُمْ إِلَى الاستِرَابَةِ مِنْ أمْرِهَا. فَالحَرَكَاتُ الإِسلامِيَّةُ لا يَنقُصُهَا إِلاَّ وُجُودُ الزَّعَامَةِ, لا يَنقُصُهَا إِلا ظُهُورُ صَلاحِ الدَّينِ جَدِيدٍ.
هَذِهِ جُملَةٌ مِنَ الآرَاءِ المُستَخلَصَةِ مِنْ خِلالِ الكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنهُ, لا يَحتَاجُ القَارِئُ فِيهَا إِلَى ذَكَاءٍ أوْ دَهَاءٍ لِكَي يُدرِكَ أنَّ الإِسلامَ هُوَ العُدُوُّ الألَدُّ لِلغَربِيِّينَ, وَأنَّهُ هُوَ شُغلُهُمُ الشَّاغِلُ الَّذِي تُحَاكُ الخِطَطُ, وَتُدَبَّرُ المَكَائِدُ لِحَصْرِهِ, وَلِلتَّضيِّيقِ عَلَيهِ, وَطَردِهِ مِنَ الحَيَاةِ كُلَّهَا. عَلَى أنَّ الكِتَابَ الَّذِي تَنَاوَلْنَاهُ, لَيسَ إِلاَّ وَاحِدًا مِنْ عَشَرَاتِ الكُتُبِ الَّتِي تَذهَبُ مَذهَبَهُ, وَتَتَّفِقُ مَعَهُ فِي مُعظَمِ الخُطُوطِ الأسَاسِيَّةِ, وَلا تَختَلِفُ إِلاَّ فِي التَّفصِيلِ.
وَلْنَعُدْ بَعدَ هَذِهِ الجَولَةِ السَّرِيعَةِ إِلَى مَيدَانِ المَعرَكَةِ, لِنُقَدِّمَ ثَلاثَةً مِنْ أبطَالِهَا البَارِزِينَ, وَهُمْ: طَهَ حُسَين, وَسَلامَة مُوسَى, أكثَرُ دُعَاةِ الجَدِيدِ تَطَرُّفًا, وَمُصطَفَى صَادِق الرَّافِعِي أبرَزُ المُدَافِعِينَ عَنِ التُّرَاثِ الإِسلامِيِّ وَالعَرَبِيِّ مِنَ المُحَافِظِينَ, وَقَدِ اختَرْتُ أنْ أُقَدِّمَهُمْ مِنْ ثَلاثَةِ كُتُبٍ تُصَوِّرُ مَذَاهِبَهُمْ, وَهِيَ: "اليَومُ وَالغَدُ" لِسَلامَة مُوسَى, وَ"مُستَقبَلُ الثَّقَافَةِ فِي مِصْرَ" لِطَهَ حُسَين, وَ"المَعرَكَةُ بَينَ القَدِيمِ وَالجَدِيدِ" لِلرَّافِعِي. أمَّا كِتَابُ "اليَومُ وَالغَدُ" فَقَدِ احتَوَى عَلَى مَقَالاتٍ نُشِرَتْ خِلالَ سَنَتَي 1925م, 1926م. ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيهَا مَقَالانِ عِندَ نَشْرِ الكِتَابِ سَنَةَ 1927م. وَهُوَ يَلتَقِي مَعَ كِتَابِ: "مُستَقبَلِ الثَّقَافَةِ فِي مِصْرَ" فِي كَثِيرٍ مِنْ وُجْهَاتِ النَّظَرِ, وَلَكِنَّ الأَوَّلَ يَعرِضُ آرَاءَهُ فِي صَرَاحَةٍ عَارِيَةٍ لا يُبَالِي مَعَهَا بِسُخْطِ النَّاسِ أو بِرِضَاهُمْ, بَلْ لَعَلَّهُ يَقصِدُ إِسخَاطَهُمْ, وَيَلْتَذُّ بِهِ. أمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَدُورُ حَولَ أهدَافِهِ, وَيُعَبِّرُ عَنهَا فِي دَهَاءٍ, مُحَاوِلاً إِقنَاعَ النَّاسِ, وَكْسَبَ رِضَاهُمْ, سَالِكًا لِذَلِكَ أحَبَّ السُّبُلِ إِلَى نُفُوسِهِمْ, وَأقَرَبَهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ, وَكَأنَّهُ لا يَنسَى مَا تَعَرَّضَ لَهُ حِينَ أخْرَجَ كِتَابَهُ الأوَّلَ: "فِي الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ". وَهَدَفُ المُؤَلِّفِ وَاضِحٌ فِي كِتَابِ: "اليَومِ وَالغَدِ" فَهُو يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: "كُلَّمَا ازْدَدْتُ خِبرَةً وَتَجرِبَةً وَثَقَافَةً تَوَضَّحَتْ أمَامِي أغَرَاضِي فِي الأدَبِ, كَمَا أُزَاوِلُهُ. فَهِيَ تَتَلَخَّصُ فِي أنَّهُ يَجِبُ عَلَينَا أنْ نَخرَجُ مِنْ آسِيَا, وَأنْ نَلتَحِقَ بِأُورُوبَا. فَإِنِّي كُلَّمَا زَادَتْ مَعرِفَتِي بِالشَّرقِ زَادَتْ كَرَاهِيَتِي لَهُ, وَشُعُورِي بِأنَّهُ غَرِيبٌ عَنِّي. وَكُلَّمَا زَادَتْ مَعرِفَتِي بِأُورُوبَا زَادَ حُبِّي لَهَا, وَتَعَلُّقِي بِهَا, وَزَادَ شُعُورِي بِأنَّهَا مِنِّي وَأنَا مِنهَا. هَذَا هُوَ مَذهَبِي الَّذِي أعْمَلُ لَهُ طُولَ حَيَاتِي سِرًّا وَجَهْرَةً, فَأنَا كَافِرٌ بِالشَّرقِ, مُؤمِنٌ بِالغَربِ". فَمِصْرُ لَيسَتْ جُزءًا مِنْ آسِيَا, وَالمُؤَلِّفُ يَقصِدُ باِلخُرُوجِ مِنْ آسِيَا الخُرُوجَ مِنَ التَّفكِيرِ الآسيَوِيِّ, أوْ بِعِبَارَةٍ أُخرَى: الخُرُوجَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي جَاءَنَا مِنْ آسِيَا وَهُوَ الإِسلامُ.
وَيَضرِبُ الكَاتِبُ فِي هَذِهِ المُقَدِّمَةِ أَمثَالاً لِهَدَفِهِ, فَهُوَ يُرِيدُ حُرِّيةَ المَرأةِ كَمَا يَفهَمُهَا الأُورُوبِيُّ .. حَتَّى نَأمَلَ يَومًا مَا فِي رُؤيَةِ قَاضِيَاتٍ وَطَبِيبَاتٍ وَطَيَّارَاتٍ وَمُعَلِّمَاتٍ وَمُدِيرَاتٍ وَوَزِيرَاتٍ وَعَامِلاتٍ .. إلخ. وَهُوَ يُرِيدُ مِنَ الأدَبِ أنْ يَكُونَ أدبًا أوُروُبيًا تِسعًا وَتِسعِينَ فِي المِائَةِ, ثُم قَائِمًا عَلَى المَعنَى وَالقَصدِ لا عَلَى اللَّفْظِ كَمَا كَانَ الحَالُ عِندَ العَرَبِ. ثُمَّ هُوَ يُرِيدُ أنْ تَكُونَ ثَقَافَتُنَا أُورُوبِيَّةً كَي نَغرِسَ فِي أنفُسِنَا حُبَّ الحُرِّيةِ وَالتَّفكِيرِ الجَرِيءِ, وَهُوَ يُهَاجِمُ الدِّينَ فِي المُقَدِّمَةِ, وَفِي أكثَرَ مِنْ مَوضِعٍ فِي الكِتَابِ, حَتَّى لَيُخَيَّلُ إِلَى القَارِئِ أنَّهُ لا يُبغِضُ فِي هَذِهِ الشَّرقِيَّةِ الَّتِي يُهَاجِمُهَا إِلاَّ الدِّينَ. فَهُو فِي كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الأمثَالِ الَّتِي يَضرِبُهَا يَهدِمُ رُكنًا مِنْ أركَانِ الأديَانِ عَامَّةً, وَالإِسلامِ خَاصَّةً, فَهُوَ يُرِيدُ مِنَ التَّعلِيمِ أنْ يَكُونَ تَعلِيمًا أُورُوبِيًّا لا سُلطَانِ لِلدِّينِ عَلَيهِ, وَلا دُخُولَ لَهُ فِيهِ, وَهُو يُرِيدُ مِنَ الحُكُومَةِ أنْ تَكُونَ دِيمُقرَاطِيَّةً بَرلَمَانِيَةً, كَمَا هِيَ فِي أُورُوبَا, وَأنْ يُعَاقَبَ كُلَّ مَنْ يُحَاوِلُ أنْ يَجعَلَهَا مِثْلَ حُكُومَةِ هَارُونِ الرَّشِيدِ أوِ المأمُونِ, أو أتُوقرَاطِيَّةً دِينِيَّةً. وَهُوَ يُرِيدُ أنْ يُبطِلَ شَرِيعَةَ الإِسلامِ فِي تَعَدُّدِ الزَّوجَاتِ, وَفِي الطَّلاقِ بِحَيثُ يُعَاقَبُ بِالسِّجْنِ كُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ أكْثَرَ مِنَ امرَأةٍ, وَيُمْنَعُ الطَّلاقُ إِلاَّ بِحُكْمِ مَحْكَمَةٍ, وَهُوَ يُرِيدُ أنْ يَقتَلِعَ مِنْ أدَبِنَا كُلَّ طَابَعٍ شَرقِيٍّ مِمَّا يُسَمِّيهِ آثَارَ العُبُودِيَّةِ, وَالذُّلِّ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى الآلِهَةِ".
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.