- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
الحَلْقَةُ الخَامِسَةُ والثَّلَاثونَ بَعدَ المِائَةِ
(ح135) أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا مِنهَا: الأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ, الخَارِجِيَّةُ, الصِّنَاعَةُ, القَضَاءُ, مَصَالِحُ النَّاسِ (2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الخَامِسَةِ والثَّلَاثِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا مِنهَا: الأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ, الخَارِجِيَّةُ, الصِّنَاعَةُ, القَضَاءُ, مَصَالِحُ النَّاسِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ السَّادِسَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادةُ الثالثةُ والعشرونَ 23- أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا, وهي:
1 - الخَلِيفَةُ (رَئِيسُ الدَّولَةِ). | 6- الأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ. | 10- مَصَالِحُ النَّاسِ (الجِهَازُ الإِدَارِيُّ). |
2 - المعَاوِنُونَ (وُزَرَاءُ التَّفوِيضِ). | 7- الخَارِجِيَّةُ. | 11- بَيتُ المالِ. |
3 - وُزَرَاءُ التَّنفِيذِ. | 8- الصِّنَاعَةُ. | 12- الإِعلَامُ. |
4 - الوُلَاةُ. | 9- القَضَاءُ. | 13- مَجلِسُ الأُمَّةِ (الشُّورَى وَالمحَاسَبَةُ). |
5 - أَمِيرُ الجِهَادِ. |
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمسلمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذه هي الـمَادَّةُ الثَّالِثَةُ والعِشْرُونَ, وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
وأمّا الأمْنُ الداخِلِيُّ: فَهَذِهِ الدَّائِرَةُ يَرأَسُهَا صَاحِبُ الشُّرطَةِ, وَمُهِمَّتُهَا حِفْظُ الأَمْنِ فِي دَارِ الإِسلَامِ، فَإِنْ عَجِزَتْ تَوَلَّى ذَلِكَ الجَيشُ بِإِذْنِ الخَلِيفَةِ. دَلِيلُهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ النَّبِيِّ r بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنْ الأَمِيرِ".
وأمّا الخَارجيةُ: فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ r يُقِيمُ العَلَاقَاتِ الخَارِجِيَّةَ مَعَ الدُّوَلِ وَالكَيَانَاتِ الأُخرَى. وَقَدْ أَرسَلَ r عُثمَانَ بْنَ عَفَّانَ لِيُفَاوِضَ قُرَيشًا، كَمَا فَاوَضَ هُوَ r رُسُلَ قُرَيشٍ، وَكَذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الـمُلُوكِ، كَمَا استَقْبَلَ رُسُلَ الـمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ، وَعَقَدَ الاتِّفَاقَاتِ وَالـمُصَالَـحَاتِ. وَكَذَلِكَ كَانَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعدِهِ يُقِيمُونَ العَلَاقَاتِ السِّيَاسِيَّةَ مَعَ غَيرِهِمْ مِنَ الدُّوَلِ وَالكَيَانَاتِ. كَمَا كَانُوا يُوَلُّوْنَ مَنْ يَقُومُ عَنهُمْ بِذَلِكَ، عَلَى أَسَاسِ أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ لَهُ أَنْ يُوكِلَ فِيهِ عَنهُ، وَأَنْ يُنِيبَ عَنهُ مَنْ يَقُومُ لَهُ بِهِ.
وأما الصناعة: فَدَلِيلُهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: قَالَ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَـهُمْ مَا استَطَعتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعلَمُونَهُمُ اللهُ يَعلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظلَمُونَ). (الأنفال 60).
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى ابنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ النَّبِيَّ r نَصَبَ المِنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ أَرْبَعِينَ يَوْماً». وَقَالَ الوَاقِدِيُّ فِي الـمَغَاِزي: «وَشَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ r أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَى أَنْ تَنْصُبَ المِنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَإِنَّا كُنَّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصُبُ المِنْجَنِيقَاتِ عَلَى الحُصُونِ وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا. فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوِّنَا وَيُصِيبُ مَنَّا بِالمِنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ المِنْجَنِيقُ طَالَ الثِّوَاءُ؛ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَعَمِلَ مِنْجَنِيقاً بِيَدِهِ، فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطَّائِفِ...». وقـال ابنُ إسحقَ في سِيرتِهِ: «حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إَلَى جِدَارِ الطَّائِفِ لِيَخْرُقُوهُ ...». ثُمَّ إِنَّ إِعدَادَ مَا يُرهِبُ العَدُوَّ وَاجِبٌ, وَلَا يَكُونُ هَذَا الإِعدَادُ إِلَّا بِالتَّصنِيعِ, فَكَانَ التَّصنِيعُ وَاجِـبًا مِـْن بَـابِ (مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ)، وَيُدِيرُهُ الخَلِيفَةُ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ.
وأمّا القَضاءُ: فَقَدْ كَانَ r يَتَوَلَّى القَضَاءَ بِنَفْسِهِ، وَيُقَلِّدُ غَيرَهُ القَضَاءَ بَينَ النَّاس. أَمَّا تَوَلِّيْهِ القَضَاءَ بِنَفْسِهِ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضيَ اللهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ». رَوَاهُ الشَّيخَانِ وَاللَّفْظُ لِلبُخَارِيِّ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ وَزَيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَا: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ ...». رَوَاهُ الشَّيخَانِ, وَاللَّفْظُ لِلبُخَارِيِّ. وَأَمَّا تَقلِيدُهُ غَيرَهُ فَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ الحَاكِمُ, وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ الشَّيخَينِ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ r إِلَى اليَمَنِ عَلِيّاً فَقَالَ: عَلِّمْهُمُ الشَّرَائِعَ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ. قَالَ: لاَ عِلْمَ لِي بِالقَضَاءِ. فَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ لِلْقَضَاءِ». وَمَا رَوَاهُ الحَاكِمُ أَيضًا وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ t قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى اليَمَنِ فَقُلْتُ: تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ ذَوِيْ أَسْنَانٍ وَأَنَا حَدَثُ السِّنِّ! قَالَ: إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِ لأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ. قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِياً». وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ الـمَاوَرْدِيُّ فِي الحَاوِيْ قَالَ: "وَقَدْ حَكَمَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَينَ النَّاسِ وَقَلَّدُوا القُضَاةَ وَالـحُـكَّامَ ... فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ إِجْمَاعًا". وَحَكَاهُ ابنُ قُدَامَةَ فِي الـمُغْنِيْ قَالَ: "وأَجْمَعَ الـمسلمٌونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ القُضاة".
وأمّا مَصالِحُ النّاسِ (الجِهازُ الإداريُّ): فَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ r يُدِيرُ الـمَصَالِـحَ, وَيُعَيِّنُ كُتَّابًا لِإِدَارَتِهَا، فَكَانَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُدِيرُ مَصَالِـحَ النَّاسِ فِي الـمَدِينَةِ، يَرعَى شُؤُونَهُمْ، وَيَحُلُّ مَشَاكِلَهُمْ، وَيُنَظِّمُ عَلَاقَاتِهِمْ، وَيُؤَمِّنُ حَاجَاتِهِمْ، وَيُوَجِّهُهُمْ فِيهَا لِـمَا يُصْلِحُ أَمرَهُمْ. وَكُلُّ هَذِهِ مِنَ الشُّؤُونِ الإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُيَسِّرُ عَيشَهُمْ دُونَ مَشَاكِلَ أَوْ تَعقِيدٍ:
ففي أمورِ التعليمِ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ r فِدَاءَ الأَسْرَى مِنَ الكُفَّارِ تَعْلِيمَ عَشَرَةٍ مِنْ أَبنَاءِ الـمُسلِمِينَ، وَبَدَلُ الفِدَاءِ هُوَ مِنَ الغَنَائِمِ، وَهِيَ مِلْكٌ لِلمُسلِمِينَ؛ فَكَانَ تَأمِينُ التَّعلِيمِ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِـحِ الـمُسلِمِينَ.
وفي التطبيب: أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ r طَبِيبٌ فَجَعَلَهُ لِلمُسلِمِينَ، فَكَونُ رَسُولِ اللهِ r جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ فَلَمْ يَتَصَرَّفْ بِهَا، وَلَـمْ يَأْخُذْهَا، بَلْ جَعَلَهَا لِلمُسلِمِينَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْبِيبَ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِـحِ الـمُسلِمِينَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الحَدِيثِ الـمُتَّفَقِ عَلَيهِ، قَالَتْ: «أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ r خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ..». فَاعتِنَاءُ الرَّسُولِ r، وَهُوَ رَئِيسُ دَولَةٍ، بِسَعْدٍ فِي مَرَضِهِ دَاخِلَ الـمَسجِدِ يُفْهَمُ مِنهُ أَنَّ التَّطبِيبَ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِـحِ الـمُسلِمِينَ تَرعَاهَا الدَّولَةُ. وَقَد سَارَ عَلَى ذَلِكَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. أَخرَجَ الحَاكِمُ فِي الـمُستَدْرَكِ عَنْ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مَرَضًا شَدِيدًا, فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيبًا فَحَمَّانِي حَتَّى كُنتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الحِمْيَةِ".
وفي شُؤونِ العَمَلِ: فَقَدْ أَرشَدَ رَسُولُ اللهِ r رَجُلًا أَنْ يَشتَرِيَ حَبْلًا ثُمَّ فَأْسًا، وَيَحتَطِبَ وَيَبِيعَ لِلنَّاسِ بَدَلَ أَنْ يَسأَلَهُمْ، هَذَا يُعطِيْهِ, وَهَذَا يَرُدُّهُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الَّذِي أَخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ، وَجَاءَ فِيهِ: «... وَاشْتَرِ بِالدِّرْهَمِ الآخَرِ قَدُوْماً فَأْتِنِيْ بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ r عُوداً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ وَاحْتَطِبْ وَبِعْ، فَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَفَعَلَ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَـشَـرَةَ دَرَاهِـمَ..» وَقَـالَ رَسُـولُ اللهِ r فِيمَا أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَـيْـرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ». فَكَانَ حَلُّ مَشَاكِلِ العَمَلِ كَذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلمُسلِمِينَ.
وفي شؤونِ الطُّرُقِ: فَقَدْ نَظَّمَ رَسُولُ اللهِ r الطُّرُقَ فِي وَقْتِهِ بِأَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ سَبْعَةَ أَذرُعٍ عِندَ التَّنَازُعِ. رَوَى البُخَارِيُّ فِي (بَابِ الطَّرِيقِ الـمَيتَاءِ) مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيرَةَ «قَضَى النَّبِيُّ r إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ»، وروايـةُ مُسـلمٍ «إِذَا اخْـتَلَفْـتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ» وَهُـوَ تَنظِـيمٌ إِدَارِيٌّ فِي ذَلِكَ الوَقْـتِ، وَإِذَا كَانَتِ الحَاجَةُ لِأَكْثَرَ كَانَ، كَمَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وفي الزراعةِ: فَقَدِ اختَلَفَ الزُّبَيرُ t وَرَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ فِي السَّقْيِ مِنْ سَيْلِ مَاءٍ يَمُرُّ مِنْ أَرضِهِمَا، فَقَالَ r: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَاللَّفْظُ لِـمُسلِمٍ.
وَهَكَذَا كَانَ r يُدِيرُ مَصَالِـحَ النَّاسِ، وَسَائِرُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعدِهِ يُدِيرُونَهَا أَوْ يُعَيِّنُونَ مَنْ يُدِيرُهَا.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.