- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
الحَلْقَةُ السَّادِسَةُ والثَّلَاثونَ بَعدَ المِائَةِ
(ح136) أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا مِنهَا بَيتُ الـمَالِ, الإِعْلَامُ, مَجلِسُ الأُمَّةِ (3)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ والثَّلَاثِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا مِنهَا بَيتُ الـمَالِ, الإِعْلَامُ, مَجلِسُ الأُمَّةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ السَّادِسَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادةُ الثالثةُ والعشرونَ 23- أَجهِزَةُ دَولَةِ الخِلَافَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جِهَازًا, وهي:
1 - الخَلِيفَةُ (رَئِيسُ الدَّولَةِ). | 6- الأَمْنُ الدَّاخِلِيُّ. | 10- مَصَالِحُ النَّاسِ (الجِهَازُ الإِدَارِيُّ). |
2 - المعَاوِنُونَ (وُزَرَاءُ التَّفوِيضِ). | 7- الخَارِجِيَّةُ. | 11- بَيتُ المالِ. |
3 - وُزَرَاءُ التَّنفِيذِ. | 8- الصِّنَاعَةُ. | 12- الإِعلَامُ. |
4 - الوُلَاةُ. | 9- القَضَاءُ. | 13- مَجلِسُ الأُمَّةِ (الشُّورَى وَالمحَاسَبَةُ). |
5 - أَمِيرُ الجِهَادِ. |
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمسلمٌونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذه هي الـمَادَّةُ الثَّالِثَةُ والعِشْرُونَ, وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
وأمـا بيـتُ المَـالِ: فَـإِنَّ الأَدِلَّـةَ مُتَضَـافِـرَةٌ عَلَى أَنَّ بَيتَ الـمَالِ كَانَ تَابِعًا لِلرَّسُولِ ﷺ مُبَاشَرةً، أَوْ لِلخَلِيفَةِ، أَوْ لِمَنْ يُوَلَّى عَلَيهِ بِإِذنِهِ، فَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ أَحيَانًا خَزْنَ الـمَالِ، وَكَانَتْ لَهُ خِزَانَةٌ. وَكَانَ يُبَاشِـرُ قَبْـضَ الـمَالِ، وَتوزِيعَهُ، وَوَضْـعَـُه مَوَاضِعَهُ. وَأَحْيَانًا كَانَ يُوَلِّيْ غَيرَهُ هَذِهِ الأُمُورَ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعدِهِ، حَيثُ كَانُوا يَتَوَلَّونَ بِأَنفُسِهِمْ أُمُورَ بَيتِ الـمَالِ أَوْ يُنِيبُونَ عَنهُمْ غَيرَهُمْ. فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَضَعُ الـمَالَ إِمَّا فِي الـمَسجِدِ، كَمَا رَوَىَ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ». وَإِمَّا فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ زَوجَاتِهِ، كَمَا رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عُقْبَةَ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ».
وَفِي عَهْدِ الرَّاشِدِينَ صَارَ الـمَكَانُ الَّذِي يُحفَظُ فِيهِ الـمَالُ يُسَمَّى بَيتَ الـمَالِ، ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَغَيرِهِ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ لَهُ بَيتُ مَالٍ بِالسَّنْحِ لَيسَ يَحرُسُهُ أَحَدٌ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَجْعَلُ عَلَيهِ مَنْ يَحرُسُهُ؟ قَالَ: عَلَيهِ قُفْلٌ. فَكَانَ يُعطِيْ مَا فِيهِ حَتَّى يَفْرُغَ. فَلَمَّا انتَقَلَ إِلَى الـمَدِينَةِ، حَوَّلَهُ فَجَعَلَهُ فِي دَارِهِ». وَرَوَى هِنَادُ فِي الزُّهْدِ بِإِسنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الـمُؤمِنِينَ، احْمِلْنِي فَإِنِّي أُرِيدُ الجِهَادَ، فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ: خُذْ بِيَدِهِ فَأدْخِلُهُ بَيتَ الـمَالِ يَأْخُذُ مَا يَشَاءُ ...».
وأمّا الإِعْلامُ: فَدَلِيلُهُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الكِتَابُ فَقَولُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُمْ). (النساء 83). وَمَوضُوعُ الآيَةِ الأَخبَارُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ فِي فَتْحِ مَكَّةَ عِندَ الحَاكِمِ فِي الـمُستَدْرَكِ, وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ مُسْلِم, وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ وَفِيهِ: «وَقَدْ عَمِيَتِ الأَخبَارُ عَلَى قُرَيشٍ، فَلا يَأتِيهِمْ خَبَرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَا يَدرُونَ مَا هُوَ صَانِعٌ». وَمُرسَلُ أَبِي سَلَمَةَ عِندَ ابْنِ أَبِي شَيبَةَ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ: «جَهِّزِينِي وَلاَ تُعْلِمِيْ بِذَلِكَ أَحَداً، ... ثُمَّ أَمَرَ بِالطُّرُقِ فَحُبِسَتْ، فَعَمَّى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِعلَامَ الـمُتَعَلِّقَ بِأَمْنِ الدَّولَةِ مُرتَبِطٌ بِالخَلِيفَةِ أَوْ بِجِهَازٍ يُنشِئُهُ لِهَذَا الغَرَضِ.
وأمّـا مَجـلسُ الشُّـوْرَى: فَإِنَّ الرَّسُـولَ ﷺ لَـمْ يَكُنْ لَهُ مَجلِسٌ مُعَيَّنٌ دَائِمًا، بَلْ كَانَ يَستَشِيرُ الـمُسلِمِينَ فِي أَوقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ استِجَابةً لِقَولِهِ سُبحَانَهُ: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). وَمِنْ هَذِهِ الـمُشَاوَرَاتِ مَا رَوَاهُ مسلمٌ عَنْ أَنَسٍ يَومَ بَدْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيْضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا». وَمِنهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ يَومَ الحُدَيبِيَةِ مِنْ طَرِيقِ الـمُسَوِّرِ وَمَروَانَ قَالَا: «وَسَارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، قَالَ إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِيشَ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ: أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيْلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ؟ فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنَ الْمُشْـرِكِينَ وَإِلاَّ تَرَكْنَاهُمْ مَحْـرُوبِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لا تُرِيدُ قَـتْلَ أَحَـدٍ وَلا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ..». إِلَّا أَنَّهُ ﷺ مَعَ جَمْعِهِ لِلمُسلِمِينَ وَاستِشَارَتِهِمْ كَانَ يَدعُو أَشْخَاصًا مُعَيَّنِينَ بِشَكْلٍ دَائِمِيٍّ يَستَشِيرُهُمْ، وَكَانُوا مِنْ نُقَبَاءِ القَومِ، وَهُمْ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَجَعْفَرٌ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابنُ مَسعُودٍ، وَسُلَيمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَحُذَيفَةُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالـمِقْدَادُ، وَبِلَالٌ. فَكَانُوا بِمَثَابَةِ مَجلِسِ شُورَى لَهُ ﷺ لِاختِصَاصِهِ إِيَّاهُمْ دَائِمًا بِالشُّورَىَ. وَكَذَلِكَ كَانَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يُشَاوِرُونَ النَّاسَ بِعَامَّةٍ، وَيَخُصُّونَ بِالـمُشَاوَرَةِ أَعدَادًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَخُصُّ رِجَالًا مِنَ الـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ يَرجِعُ إِلَيهِمْ لِأَخْذِ رَأيِهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ يَكُونُونَ كَأَهْلِ الشُّورَى لَدَيهِ. وَكَانَ أَهْلُ الشُّورَى فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ t هُمُ العُلَمَاءَ وَأَصْحَابَ الفَتْوَى. أَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ عَنِ القَاسِـمِ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّـِّديـقَ كَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ يُرِيدُ مُشَاوَرَةَ أَهْلَ الرَّأيِ وَأَهْلَ الفِقْهِ فِيهِ، دَعَا رِجَالًا مِنَ الـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، دَعَا عُمَرَ، وَعُثمَانَ، وَعَلِياً، وَعَبدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوفٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَزَيدَ بْنَ ثَابِتٍ»، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَانَ يُفْتِي فِي خَلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّما تَصِيرُ فَتْوَى النَّاسِ إِلَى هَؤُلَاءِ، فَمَضَى أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ وُلِّيَ عُمَرُ فَكَانَ يَدْعُو هَؤُلَاءِ النَّفَرَ. كُلُّ ذَلَكِ يَدُلُّ عَلَى اتَّخَاذِ مَجلِسٍ خَاصٍّ يَنُوبُ عَنِ الأُمَّةِ فِي الشُّورَى الثَّابِتَةِ بِنَصِّ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ، يُطلَقُ عَلَيهِ: مَجلِسُ الأُمَّةِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الأُمَّةِ فِي (الشُّـورَى). وَيَكُونُ عَمَلُهُ كَذَلِكَ (الـمُحَـاسَـَبةَ) لِلأَدِلَّةِ الوَارِدَةِ فِيهَا. رَوَى مسلمٌ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِـيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَـالَ: لاَ مَا صَلَّوْا». وَالصَّلَاةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الحُكْمِ بِالإِسلَامِ. وَمِنَ الـمُحَاسَبَةِ إِنكَارُ الـمُسلِمِينَ - أَوَّلَ الأَمْرِ- وَعلَى رَأسِهِمْ عُمَرُ، عَلَى أَبِي بَكْرٍ عَزْمَهُ عَلَى مُحَارَبَةِ الـمُرتَدِّينَ، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ وَمسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ t، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ t: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ، لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ، لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ t فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ y فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ». كَمَا أَنكَرَ بِلَالٌ وَالزُّبَيرُ وَغَيرُهُمْ عَلَى عُمَرَ عَدَمَ تَقسِيمِهِ أَرْضَ العِرَاقِ عَلَى الـمُحَارِبِينَ. وَكَمَا أَنكَرَ أَعرَابِيٌّ عَلَى عُمَرَ حِمَايَتَهُ لِبَعْضِ الأَرْضِ، فَقَد رَوَىَ أَبُو عُبَيدٍ فِي الأَموَالِ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيرِ أَحسَبُهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَتَى أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الـمُؤمِنِينَ، بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيهَا فِي الإِسلَامِ، عَلَام تَحمِيهَا؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَنفُخُ وَيَفتِلُ شَارِبَهُ - وَكَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ فَتَلَ شَارِبَهُ وَنَفَخَ - فَلَمَّا رَأَى الأَعرَابِيُّ مَا بِهِ جَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: الـمَالُ مَالُ اللهِ، وَالعِبَادُ عِبَادُ اللهِ، وَاللهِ لَولَا مَا أَحْمِلُ عَلَيهِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا حَمَيْتُ مِنَ الأَرْضِ شِبرًا فِي شِبْرٍ". وَكَانَ عُمَرُ قَدْ حَمَى لِخَيلِ الـمُسلِمِينَ بَعْضَ أَرَاضِي الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ.
وَكَمَا أَنْكَرَتْ عَلَيهِ امْرَأَةٌ نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يَزِيدَ النَّاسُ فِي الـمُهُورِ عَلَى أَرْبعِمِائَةِ دِرهَمٍ، فَقَالَتْ لَهُ: لَيسَ هَذَا لَكَ يَا عُمَرُ: أَمَا سَمِعْتَ قَولَ اللهِ سُبحَانَهُ: (وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأخُذُوا مِنهُ شَيئًا). (النساء 20) فَقَالَ: "أَصَابَتِ امْرَأَةٌ, وَأَخطَأَ عُمَرُ". وَهَكَذَا فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ مِنْ شَـْرحِ هَذِه الـمَادَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَدْ أَقَامَ جِهَازًا مُعَيَّنًا لِلدَّولَةِ عَلَى شَكْلٍ مَخُصُوصٍ، وَظَلَّ يَسِيرُ بِحَسَبِهِ إِلَى أَنْ التَحَقَ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، ثُمَّ جَاءَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعدِهِ فَسَارُوا عَلَى ذَلِكَ، يَحكُمُونَ حَسَـبَ هَـَذا الِجهَـازِ الَّذِي أَقَامَهُ الرَّسُـولُ ﷺ بِعَـيْـنِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَرأَىً وَمَسْمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ جِهَازُ الدَّولَةِ الإِسلَامِيَّةِ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.