- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح227)جميع أدلة الذين أحلوا الكنـز إذا أخرجت زكاته ساقطة عن درجة الاعتبار (2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّابِعَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "جميع أدلة الذين أحلوا الكنـز إذا أخرجت زكاته ساقطة عن درجة الاعتبار". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 142: يُـمْنَعُ كَنْـزُ الـمَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ التَّتِمَّةُ الثَّانِيَةُ للـمَادَّةِ الثَّانِيَةِ وَالأربَعِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
ثانيهما: ثاني الوجهين لِـحَدِيثِ عَتَّاب أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الكَنْزِ: هُوَ أَنَّ آيَةَ الزَّكَاةِ عَامَّةٌ لِكُلِّ كَنْـزٍ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ خَاصٌّ بِالأَوْضَاحِ فَيَكُونُ الحَدِيثُ مُـخَصِّصًا لِعُمُومِ الآيَةِ، بِأَنَّ الكَنْـزَ الـمَمْنُوعَ إِنَّـمُا هُوَ فِي غَيرِ الحُلِيِّ، أَمَّا الحُلِيُّ فَلَا يُـمْنَعُ كَنْـزُهَا إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهَا، وَلَا يُـمْكِنْ أَنْ يَكُونَ الحَدِيثُ عَامًّا لِكُلِّ كَنْـزٍ وَلَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَأَبْسَطُ دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ جَعْلِهِ عَامًّا هُوَ أَنَّهُ لَو جُعِلَ عَامًّا لَكَانَ نَاسِخًا لِلآيَةِ؛ لِأَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ وَالحَدِيثُ عَامٌّ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لَـهَا، وَالحَدِيثُ خَبَرُ آحَادٍ فَهُوَ ظَنِّيٌّ وَالآيَةُ قَطْعِيَّةٌ، وَالحَدِيثُ مِنْ حَيثُ هُوَ لَا يَنْسَخُ القُرآنَ، وَلَو كَانَ مُتَواتِرًا لِأَنَّ القُرآنَ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ، وَلَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ جَاءَ بِـهِمَا الوَحْيُ، وَنَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، بِـخِلَافِ الحَدِيثِ الـمُتَوَاتِرِ، فَهُوَ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ، وَلَكِنَّ الوَحْيَ جَاءَ بِـمَعْنَاهُ، وَلَـمْ يَأْتِ بِلَفْظِهِ، وَلَسْنَا مُتَعَبَّدِينَ بِلَفْظِهِ، فَلَا يَنْسَخُ القُرآنَ، فَكَيفَ بِحَدِيثِ الآحَادِ؟ .. وَعَلَيهِ يَسْقُطُ الاستِدْلَالُ بِـهَذَا الحَدِيثِ، حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا، عَلَى جَوَازِ الكَنْـزِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ، لِعَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ القُرآنِ بِالـحَدِيثِ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ كَنْـزَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُـهُمَا: "إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهِ أَنَّ آيَةَ تَـحْرِيمِ الكَنْـزِ مَنْسُوخَة بِالآيَاتِ الَّتِي فُرِضَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ. فَإِنَّ تِلْكَ الآيَاتِ نَسَخَتْ آيَةَ تَـحْرِيمِ الكَنْـزِ بِفَرْضِ الصَّدَقَةِ أَيْ الزَّكَاةَ عَلَيهَا".
وَالجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ فُرِضَتْ عَلَى الـمُسْلِمِينَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَهَذِهِ الآيَةُ أَيْ آيَةُ تـَحْرِيمِ الكَنْـزِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَلَا يَنْسَخُ الـمُتَقَدِّمُ الـمُتَأَخِّرَ فِي النُّـزُولِ. وَفَوقَ هَذَا فَإِنَّ نَسْخَ آيَةٍ لآيَةٍ أُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الآيَةِ حَتَّى يَكُونَ النَّسْخُ، فَإِنْ لَـمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ نَسْخٌ. فَالنَّسْخُ هُوَ إِبْطَالُ الحُكْمِ الـمُسْتَفَادِ مِنَ النَّصِّ السَّابِقِ بِنَصٍّ لَاحِقٍ وَرَفْعُهُ، وَإِبْطَالُ الحُكْمِ السَّابِقِ بِنَصٍّ لَاحِقٍ يُشتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَنُصَّ اللَّاحِقُ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلسَّابِقِ مِثْلُ قَولِهِ r: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ مِنْ طَرِيقِ بُرَيدَةَ وَمِثْلُ قَولِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (المجادلة 12) فَهَذِهِ الآيَةُ تُـحَتِّمُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَاتِ بَينَ يَدَيِ النَّجْوَى إِنْ وُجِدَتْ، فَجَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى وَنَسَخَتْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ).(المجادلة 13) فَرَفَعَ بِـهَذِهِ الآيَةِ التَّحْتِيمَ فِي تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَينَ يَدَيِ النَّجْوَى. فَالحَدِيثُ بُيِّنَ فِيهِ النَّسْخُ صَرَاحَةً، وَالآيَةُ بُيِّنَ فِيهَا النَّسْخُ إِشَارَةً بِقَولِهِ تَعَالَى:(أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ). فَالنَّسْخُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي النَّصِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِنَصٍّ سَابِقٍ إِمَّا صَرَاحَةً، وَإِمَّا دَلَالَةً. وَلَا يَكْفِي فِي النَّسْخِ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ النَّصَّينِ أَنَّ بَينَهُمَا تَنَاقُضًا لِأَنَّ التَّنَاقُضَ بَينَ آيَاتِ القُرآنِ غَيرُ مَوجُودٍ، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِنْ آيَاتٍ تُوهِمُ وُجُودَ التَّنَاقُضِ بَينَهَا وَادَّعَوْا أَنَّـهَا مَنْسُوخَةٌ فَإِنَّ نُصُوصَ تِلْكَ الآيَاتِ نَفْسِهَا صَرِيحٌ بِعَدَمِ وَجُودِ التَّنَاقُضِ، وَالجَمْعُ بَينَهُمَا وَاضِحٌ، وَلَيسَ فِيهَا أَيَّةُ دَلَالَةٍ عَلَى النَّسْخِ.
وَلِـهَذَا فَإِنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي النَّصِّ اللَّاحِقِ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِـمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ إِمَّا صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً. وَآيَاتُ الزَّكَاةِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الكَنْـزِ لَا صَرَاحَةً وَلَا دَلَالَةً، لَا مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ بَعِيدٍ، فَلَا تَكُونُ نَاسِخَةً لَـهَا. وَحَتَّى عِندَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ وُجُودَ التَّنَاقُضِ يَجْعَلُ النَّصَّ اللَّاحِقَ نَاسِخًا لِلسَّابِقِ لَا تَنْسَخُ آيَاتُ الزَّكَاةِ آيَةَ الكَنْـزِ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَا يُوهِمُ التَّنَاقُضَ بَينَهُمَا، فَآيَاتُ الزَّكَاةِ يَنُصُّ الخِطَابُ فِيهَا عَلَى إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَآيَةُ الكَنْـزِ يَنُصُّ الخِطَابُ فِيهَا عَلَى عَدَمِ الكَنْـزِ، وَلَا تَنَاقُضَ بَينَ هَذَينِ الأَمرَينِ فَيُوجَدُ كَنْـزٌ وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ، وَيُوجَدُ عَدَمُ كَنْـزٍ وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ، وَيُوجَدُ عَدَمُ كَنْـزٍ وَعَدَمُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَا يُوجَدُ نَسْخٌ حَتَّى عَلَى هَذَا القَولِ. فَمِنْ أَيْنَ يُدَّعَى النَّسْخُ؟ وَلِهَذَا فَإِنَّ كَونَ الَّزكَاةِ شُرِّعَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَالكَنْـزُ نَزَلَتْ آيَتُهُ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ أَيْ بَعْدَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِسَبْعِ سِنِينَ، وَكَونَ آيَاتِ الزَّكَاةِ لَيسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الكَنْـزِ لَا صَرَاحَةً وَلَا دَلَالَةً، وَفَوقَ ذَلِكَ فَهِيَ لَا تُنَاقِضُهَا أَيْ لَا تَتَنَاقَضُ آيَاتُ الزَّكَاةِ مَعَ آيَةِ الكَنْـزِ، لِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاءُ أَنَّ آيَةَ الكَنْـزِ مَنْسُوخَةٌ بِالزَّكَاةِ ادِّعَاءً بَاطِلاً فَيُردُّ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ كَنْـزَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ:"إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ سَأَلَهُ عَنْ آيَةِ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (التوبة 34): "مَنْ كَنَـزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَـهَا فَوَيْلٌ لَهُ إِنَّـمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْـزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ". وَخَبَرُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلقُرآنِ بِالسُّنَّةِ أَوْ نَسْخٌ لِلقُرآنِ بِالسُّنَّةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الخَبَرُ هُوَ إِخْبَارٌ صَحِيحٌ عَنْ ذَلِكَ النَّسْخِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ القُرآنِ بِالقُرآنِ، لِأَنَّ الَّذِي نَسَخَ القُرآنَ هُوَ القُرآنُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بِالقُرآنِ وَلَيسَ بِالسُّنَّةِ، فَالوَاجِبُ أَخْذُهُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ صَحِيحٌ يَروِي أَنَّ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِأُخْرَى. فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الكَنْـزِ مَنْسُوخًا. فَمَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ جَازَ كَنـْزُهُ. وَالجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أحدِها: إِنَّ هَذَا خَبَرُ آحَادٍ يَروِي أَنَّ الآيَةَ قَدْ نُسِخَتْ، فَيَنطَبِقُ عَلَيهِ مَا يَنطَبِقُ عَلَى أَيِّ خَبَرِ آحَادٍ مِنْ أَنَّهُ ظَنِّيٌ وَمَا جَاءَ فِي الآيَةِ قَطْعِيٌّ، وَالقَطْعِيُّ مُرَجَّحٌ عَلَى الظَّنِّيِّ، فَيَكُونُ نَصُّ الآيَةِ مُرَجِّحًا لِعَدَمِ نَسْخِهَا عَلَى نَسْخِهَا، فَيُعْمَلُ بِعَدَمِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّه الأَرْجَحُ، وَيُرَدُّ ادِّعَاءُ النَّسْخِ.
ثانيها: إِنَّ الإِخْبَارَ بِنَسْخِ الآيَةِ هُوَ مِثْلُ رِوَايَةِ الحَدِيثِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُكْمًا يَنْسَخُ حُكْمًا آخَرَ جَاءَ فِي آيَةٍ مِنَ القُرآنِ، فَكَمَا أَنَّ الحَدِيثَ لَا يَنْسَخُ الآيَةَ إِذَا تَضَمَّنَ مَا يَنْسَخُهَا أَوْ مَا يُفِيدُ نَسْخَهَا. فَكَذَلِكَ خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ لَا يَنْسَخُ آيَةً مِنَ القُرآنِ بِـمُجَرَّدِ إِخْبَارِهِ أَنَّهَا نُسِخَتْ.
ثالثها: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يُخْبِرُ عَنِ الآيَةِ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ إِخْبَارًا عَنِ الرَّسُولِ، أَيْ لَا يَروِي ابْنُ عُمَرَ عَنِ الرَّسُولِ بِأَنَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِنَّ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَإِنَّـمَا هُوَ يُعْطِي رَأْيَهُ بِأَنَّ الآيَةَ قَدْ نُسِخَتْ. إِذْ قَدْ سَأَلَهُ الأَعْرَابِيُّ عَنِ الآيَةِ فَأَجَابَ مِنْ عِندِهِ أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَلَـمْ يُسْنِدْ ذَلِكَ لِلرَّسُولِ بِأَنَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَيَكُونُ رَأْيًا لابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ الآيَةَ نُسِخَتْ بِالزَّكَاةِ، أَيْ فَهْمًا لابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةَ، وَلَيسَ حَدِيثًا عَنِ الرَّسُولِ، وَرَأْيُ ابْنِ عُمَرَ وَفَهْمُهُ لَا يُعتَبَرُ دَلِيلًا شَرعِيًّا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الصَّحَابِيِّ لَا يُعتَبَرُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَكَيفَ يُعتَبَرُ نَاسِخًا لِلقُرآنِ؟
رابعها: إِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلهْجَرَةِ، وَآيَةُ تَحرِيمِ الكَنْـزِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، فَكَيفَ يَنْسَخُ حُكْمُ الزَّكَاةِ الـمُتَقَدِّمُ الآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَهُ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَلِذَلِكَ يُرَدُّ هَذَا الخَبَرُ دِرَايَةً. فَهَذِهِ الأَوْجُهُ الأَربَعَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا كَافِيَةٌ لِإِسْقَاطِ الاستِدْلَالِ بِهَذَا الحَدِيثِ، وَلِإِبْطَالِ اِدِّعَاءَ أَنَّ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَعَلَيهِ لَا يَصْلُحُ هَذَا الحَدِيثُ دَلِيلاً عَلَى جَوَازِ الكَنْـزِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.