الصائم مع القرآن والسنة الصائم حَسَنُ الجوار
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
قالَ الحقُّ عزَّ وجلَّ في مُحْكَمِ تنزيلِهِ: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا).
أمرَ اللهُ سبحانَه وتعالى بالإحسانِ إلى الجيرانِ، والصبرِ على أذاهُم، وكَفِّ الأذى عنهم، فقدْ روى البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَا زَالَ جِبْريلُ يُوْصِيْنِيْ بالجارِ ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُوَرِّثُهُ)، وروى مسلمٌ عن أبي ذرٍّ الغفاريِّ أنه قال: إنَّ خَليلِيْ صلى الله عليه وسلمَ أوْصَانِيْ: (إذا طَبَخْتَ مَرَقاً فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوْفٍ).
وَرَد في كتابِ وَفَيَاتِ الأَعْيَانِ أنَّ الإمامَ أبا حَنيفةَ النعمانَ بْنَ ثابتٍ رحمَهُ اللهُ كانَ له جَارٌ إِسكافيٌّ يَعْمَلُ نَهَارَهُ، فإذا رَجَعَ إلى مَنْزِلِهِ ليلاً تَعَشَّى ثُمَّ شَرِبَ، فإذا دَبَّ الشرابُ فيه أنشدَ يُغَنِّيْ، ويَقُوْلُ مُتَمَثِّلاً بِقَوْلِ الْعَرْجِيّ:
أضاعوني وأيَّ فَتًى أضاعوا لِيَوْمِ كَرِيْهَةٍ وَسَدادِ ثَغْرِ
ولا يَزالُ يَشربُ ويُردّدُ هذا البيتَ حتى يأخذَهُ النومُ، وأبو حنيفةَ يسمعُ جَلَبَتَهُ في كُلِّ يومٍ ويَصبرُ.
وفي يومٍ كانَ أبو حَنيفةَ يُصلّيْ بالليلِ كُلِّهِ، ففقَدَ أبو حَنيفةَ صَوْتَهَ، فَسَألَ عنه، فقيلَ: أخَذَهُ الْعَسَسُ مُنْذُ ليالٍ، فَصَلى أبو حنيفةَ الفجرَ من غَدِهِ، ثم رَكِبَ بَغْلَتَهُ وأتى دارَ الأميرِ، فاستأذنَ عليه، فقالَ: ائْذَنُوا له، وأَقْبِلُوا بِهِ راكباً، ولا تَدَعُوْهُ يَنْزِلَ حتى يَطَأَ البِسَاطَ؛ ففُعِلَ به ذلكَ، فَوَسَّعَ له الأميرُ من مَجْلِسِهِ، وقالَ له: ما حاجَتُكَ؟ فَشَفَعَ في جَارِهِ، فقالَ الأميرُ: أطلِقُوهُ، وأطلِقُوا كلَّ مَنْ أُخِذَ في تلك الليلة إلى يومنا هذا؛ فأطلَقُوهم أيضاً، فذهبوا وركبَ أبو حنيفةَ بَغْلَتَهُ، وخَرَجَ الإسكافِيُّ معه يَمْشِي وَراءَهُ، فقال له أبو حنيفةَ: يا فتى هَلْ أضَعْنَاكَ؟ فقالَ: بَلْ حَفِظْتَ وَرَعَيْتَ، فَجَزَاكَ اللهُ خيراً عَنْ حُرْمَةِ الْجِوارِ.
ثم تاب، ولم يَعُدْ إلى ما كان يَفْعَلُ، لحسنِ معاملةِ أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنه، ومقابلةِ الإساءةِ بالإحسانِ.
ومما رُوِيَ عن حسنِ الجوارِ أنَّ أبا الْجَهْمِ الْعَدَوِيَّ باعَ دارَهُ بِمِائَةِ ألفِ دينارٍ، ثم قالَ للمشترِيْ: بِكَمْ تَشْتَرِيْ جِوَارَ سعيدِ بْنِ العاصِ؟ فقالوا: وَهَلْ يُشْتَرَى جِوَارٌ قَطُّ؟ قَالَ: رُدُّوْا عَليَّ دَارِيْ، وخُذُوا دَراهِمَكُمْ، واللهِ لا أَدَعُ جِوارَ رَجُلٍ: إِنْ فُقِدْتُ سَألَ عني، وإنْ رآني رَحَّبَ بي، وإنْ غِبْتُ حَفِظَنِيْ، وإنْ شَهِدْتُ قَرَّبَنِيْ، وإنْ سألتُه أعطاني، وإنْ لم أسألْهُ ابتَدَأَني، وإنْ نَابَتْنِيْ جائحةٌ فَرَّجَ عني.
فبلغ ذلك سَعيداً، فبعثَ إليه بِمِائَةِ ألفِ درهمٍ.
ومن حقِّ الجارِ على جارِهِ أنْ يبدأَه بالسلامِ، وأنْ يشاركَهُ أفراحَهُ وأتراحَهُ، وأن يَعُودَه إذا مرضَ، وأن يسيرَ في جنازتِهِ، وأنْ يتفقَّدَهُ إذا غابَ، وأَلاّ يُؤذيَهُ، ولا يتجسسَ عليه، وأنْ يُجيبَ دعوتَهُ، ويصونَ حُرْمَتَهُ، ويُعينَه عندَ الشدائدِ، ويواسيَهُ ويُكْثِرَ بِرَّهُ والإحسانَ إليه، وأنْ يسترَ عيبَهُ، وينصحَ له، ويحسِنَ عِشرَتَهُ ومعاملتَهُ.
فمنْ أولى من الصائم بالإحسانِ إلى جارِهِ، وكَفِّ الأذى عنه، والصبرِ عليه وعلى أذاهُ؟ فهيَ قُرْبَةُ يَجْمَعُها الصائمِ إلى قربةِ صِيامِهِ مبتغياً الأجرَ والثوابَ، والرحمةَ والرضوانَ.