الحديث السياسي الصوملة والقرصنة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما يتم تقطيع أوصال بلد ما، وتنشب فيه حروب أهلية طاحنة، وتتقاتل عليه مجموعات قومية وإثنية ومذهبية متشابكة، ويصبح نموذجاً سيئاً لغيره من البلدان، ومعياراً أو مقياساً يعكس عدم الاستقرار، عندما يحدث ذلك في بلد ما قد يدخل اسمه في مفردات القواميس السياسية للدلالة على معاني التفتيت والتصارع والفوضى، وقد يُضرب به الأمثال.
ومن البلدان التي ذاع صيتها في هذا المضمار، ودخل اسمها في كل دار، منطقة البلقان في القرن التاسع عشر، ودولة لبنان في القرن العشرين، فهذه البلدان ابتليت بالحروب الطائفية، وتعرضت لمشاريع التقسيم الحقيقية، وأصبح كل بلد بعد ذلك يُبتلى بمثل ما ابتليت به بلاد البلقان أو دولة لبنان، يُطلق عليه صفة البلقنة أو اللبننة.
والحقيقة أن غالبية البلدان الإسلامية، ومعظم الدول النامية قد جعلها الاستعمار مشاريع بلقنة ولبننة، فلا يقتصر الأمر على لبنان أو البلقان، فتآمر الدول الغربية الاستعمارية على تلك البلدان لم يتوقف لحظة، وتكالبها على مواردها حوَّلها في أغلب الأحيان لأن تكون عرضة في أي وقت للتقسيم، ولاندلاع الحروب الداخلية فيها.
لكن وسائل الإعلام المروجة للمصطلحات السياسية، وواضعي مفردات القاموس السياسي، غفلوا عن الصومال الذي تفوق بجدارة على لبنان والبلقان في وجود مثل تلك المواصفات فيه. فالصوملة أدق وصفاً من اللبننة أو البلقنة في دلالتها على معاني التناحر والتمزيق، وما جرى في الصومال من اقتتال وتناحر، ومن تفتيت وتمزيق فاق كل التصورات.
فالصومال منذ الإعلان عن استقلاله، تم تقسيمه وتوزيعه على عدة دول أفريقية، ومزق إلى أكثر من مزقة، وما تبقى منه زُرعت فيه بذرة الانقسام والانشطار والتفتت.
ففي عام 1954م ضمت بريطانيا إقليم أوغادين الصومالي إلى الحبشة (أثيوبيا) والذي تعادل مساحته ما يقارب ربع مساحة أثيوبيا نفسها. وفي العام 1960م أقيمت دولة الصومال الحديثة على بقايا الأراضي الصومالية المؤلفة من إقليمين اثنين، أحدهما الصومال البريطاني (صومالي لاند) والثاني الصومال الإيطالي (صوماليا). أما الصومال الفرنسي الذي تقطنه قبيلتي عفار وعيسى فقد انفصل عنهما وأصبح دولة مستقلة تدعى جيبوتي. وفي العام 1963م ضمت كينيا إليها و-بالتواطؤ مع بريطانيا- إقليم جنوب غرب الصومال وأصبح إقليماً كينياً يُسمى إقليم الحدود الشمالية الكينية.
وهكذا تحول الصومال الكبير إلى صومال فرنسي وصومال أثيوبي وصومال كيني وصومال إيطالي وصومال بريطاني. وخاض الصومال الإيطالي والبريطاني حروباً أهلية دامية منذ تأسيسه وحتى هذه الأيام، وأسفرت تلك الحروب في العام 1991م عن الإطاحة بحكم الرئيس محمد سياد بري ومن ثم الإطاحة بالدولة نفسها. ويعيش الصومال منذ ذلك الوقت في مناطق الصومال الإيطالي والبريطاني السابقة بدون دولة رسمية معترف فيها.
إلا أن الصومال البريطاني أعلن عن استقلاله من جانب واحد في العام 1991م تحت اسم جمهورية أرض الصومال، ونأى بنفسه عن الحروب الأهلية، ولاذ حكامه ببريطانيا التي منحتهم الحماية النسبية. وأما الصومال الإيطالي فانقسم عنه إقليم بونتلاند الذي أعلن الانفصال عن العاصمة مقديشو باعتباره منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، ومن هذا الاقليم بالذات تنطلق في هذه الأيام أعمال القرصنة.
ولقد ساهمت الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، كما ساهمت الدول المجاورة مثل أثيوبيا وكينيا وإريتريا وجيبوتي، ساهمت كل هذه الدول بشكل أو بآخر في إذكاء الحروب الأهلية وفي صناعة أمراء الحرب الذين عملوا لصالح تلك الدول، وفتكوا بالدولة، وساهموا في خرابها.
وكان لأبناء الصومال المخلصين من المجاهدين والمنادين نصيباً من البلد، فقد طالبوا وحاولوا أن يطبقوا أحكام الشريعة الإسلامية على الناس، وجاهدوا الغزاة بمجهوداتهم الذاتية، فكان لهم نصيب من تلك الحروب كالمحاكم الإسلامية والشباب المجاهدين، كما كان للقراصنة نصيب آخر منها، وهم من المحاربين القدامى الذين حوَّلوا حروبهم تجاه البحر، مبتعدين عن البر، محاولين كسب لقمة عيشهم عن طريق القرصنة، بعد أن سُلبوا من حقهم في العيش الطبيعي.
ومرت الأيام وتمرس القراصنة في العمل، وصار لديهم الخبرة والمال اللازمين للاستيلاء على السفن الكبيرة كناقلة البترول السعودية، وصاروا يجوبون أعالي البحار، وينجحون في الاستيلاء على السفن الكبيرة كناقلة البترول السعودية، وأصبحوا يستخدمون في قرصنتهم السفن الكبيرة كقواعد متحركة لهم للانطلاق منها على فرائسهم، ولاصطياد الطرائد الثمينة والوفيرة التي تطالها أيديهم. وبعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه حالياً، وأصبحت قرصنتهم تشكل أخطاراً كبيرة على مصالح الدول الكبرى، هبت هذه الدول ومعها الدول التابعة لمواجهتهم. فحكام آل سعود وصفوهم بالإرهابيين، وبدأوا يعرضون الأموال على بعض المقاتلين الإسلاميين لمواجهتهم. وأما الدول الكبرى الاستعمارية فبدأت تضع الخطط وترصد الأموال للقضاء عليهم؛ لأنهم باتوا يشكلون خطراً حقيقياً على التجارة البحرية الدولية، وما تحمل من إمدادات طاقة وموارد ومواد خام للدول.
لقدكان حرياً بالسعودية ومصر واليمن غيرها من الدول العربية التي تتباكى على مصالحها وأرباحها من القراصنة، لقد كان حرياً بها لو أرادت معالجة المشاكل في الصومال معالجة حقيقية وجذرية، أن تمد يد العون للصوماليين المحتاجين، وأن تقدم لهم المساعدات التي تسد رمقهم وعوزهم، وأن تعمل على توحيد الأقاليم الصومالية المتناثرة في دولة واحدة، لا سيما وأن الصومال دولة عربية وعضو في الجامعة العربية.
لكن إهمال الأنظمة العربية للصومال وتركه لقمة سائغة للأثيوبيين المستعمرين، وعدم احتضانه ومده بأسباب الحياة، هو الذي حوَّل الصومال إلى هذا الحال من البؤس والتخلف والتمزق. فلو أن السعودية أنفقت جزء يسير من مداخيلها النفطية الهائلة على استثمارات تنموية في الصومال، لما عمَّت الفوضى والمجاعة في مواطنيه، ولما غزته القوات الأثيوبية، ولما تحول إلى مقر رئيسي للقراصنة يهدد المصالح العالمية والاقليمية، ومنها المصالح السعودية.
لكن إهمال الصومال وازدرائه من قِبل (الأشقاء) كما يحلو لهم وصف أنفسهم هو الذي تركه فريسة للأعداء يعبثون بمقدراته كما يشاؤون. فمن الأولى أن يتدخل في شؤون الصومال العربي المسلم الدول الغربية والدول الزنجية أم البلدان العربية والإسلامية؟!!! وقبل أن يلام القراصنة في الصومال ويوصفون بالإرهاب من قبل حكام آل سعود وحكام مصر فليلوموا أنفسهم على تقصيرهم في ترك قطعة عزيزة من البلاد العربية والإسلامية بأيدي الأعداء يمزقونها إرباً إرباً فيما بينهم وكما يحلو لهم.
فعلى حكام الدول العربية والبلدان الإسلامية إن أرادوا حماية مصالح دولهم وشعوبهم أن يعيدوا النظر في الوضع الأمني والسياسي الإقليمي برمته، وأن تكون نظرتهم له نابعة من المبدأ الذي يجمعهم، وأن يوسعوا من اهتماماتهم الضيقة ليجعلوها تعم المنطقة العربية والإسلامية بأسرها، باعتبارها تشكل كلاً واحداً سياسياً وأمنياً لا يتجزأ.
لكن هؤلاء الحكام عهدناهم منذ زمن بعيد حكاماً عملاء مأجورين، لا يبدو أنهم قادرين على تغيير نظرتهم القاصرة، وقد اعتادوا أن لا ينظروا إلى أبعد من أرنبة أُنوفهم.