أجرة الأجير وعلاقتها بالحالة الاقتصادية وكيف تقدر
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدير أجرة الأجير هي إحدى المشكلات التي تواجهها المجتمعات، وذلك بسبب عدم فهم واقع الإجارة، وعلى ماذا يعقد عقد الإجارة، وقبل أن ننتقل إلى كيف تقدر هذه الأجرة، لابد من التطرق إلى ماهية الإجارة، وعلى ماذا تعقد ومن ثمّ وما علاقتها بالحالة الاقتصادية ومن ثمّ الانتقال إلى تقدير الأجر.
الإجارة عقد على المنفعة بعوض وهذه المنفعة إما أن تكون متعلقة بمنفعة العمل الذي يقوم به الأجير وإما أن تكون متعلقة بمنفعة الشخص وبناء عليه كان الضابط في العقد هو المنفعة التي يحصلها المستأجر من الأجير وليس كما يظن البعض أن الجهد أو أن الوضع الاقتصادي هو مقياس الأجر وكلمة قاس لغة تعني تقدير الشيء على مثاله والمقياس هو المقدار ومعنى أن المنفعة هي مقياس الأجر هو أن المنفعة يحصل بها تقدير الأجر.
إن هناك وحدة للقياس، وهناك مقياس للتبادل، فالمنفعة هي وحدة القياس ونقصد بها منفعة الجهد ومنفعة السلعة، وأما مقياس التبادل فهو ما يتم تبادله من جهد أو سلعة مقابل وحده معينة ألا وهي النقد، فالثمن هو للسلعة والأجر هو للجهد، وعلى ذلك فان القيمة وهي مقدار ما في الشيء من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة غير الثمن وغير الأجر، لأن القيمة ثابتة في حين أن الثمن والأجر كل منهما غير ثابت فهما متغيران.
وأما ما يقال من أن الوضع الاقتصادي يتحكم بأجرة الأجير وليس المنفعة وأن الواقع ينطق بذلك بدليل أن أجرة الأجراء تختلف باختلاف البلد واختلاف الوضع الاقتصادي فيه فبيانه هنا:
إن جعل أثمان السلع جراء الوضع الاقتصادي يتحكم بالأجر، يؤدي إلى تحكم السلع التي ينتجها أو يشتريها الأجير بالأجرة التي يتقاضاها، مع أن أثمان السلع إنما تتحكم بالمستأجر أو صاحب العمل لا بالأجير، بمعنى أن صاحب العمل عندما يتخذ أُجَرَاءَ ينظر إلى مدى الربح أو المردود الاقتصادي الذي سيحققه، فإذا جعل الوضع الاقتصادي يتحكم بالأجير أدت إلى تحكم صاحب العمل بالأجير: ينزل أجرته ويرفعها كلما أراد، بحجة نزول الأسعار أو ارتفاعها أو بحجة الوضع الاقتصادي السيئ وهذا خطأ. لأن الأجير يتقاضى أجره بدل منفعة عمله، فهي تساوي قيمة المنفعة في السوق العام لتلك المنفعة حسب تقدير خبراء كل مهنة، فلا تربط أجرة الأجير بأثمان السلع التي ينتجها أو يشتريها. وعندما يحدث هبوط في أسعار السلع التي ينتجها الأجير فإنها تؤدي إلى خسارة صاحب العمل، وقد تؤدي إلى إخراج العامل من عمله، أو تقليل أجرته، إذ قد تنزل السلع هذا الشهر لكثرة العرض، وقد ترتفع في الشهر المقبل لقلة العرض، فإذا رفع صاحب العمل أجرة الأجير أو أنزلها يكون قد وضع الأجرة التي يريدها بحجة ارتفاع الأسعار وانخفاضها، وبذلك يكون الأجير قد وضع تحت رحمة المستأجر وهذا هو التحكم بعينه. ثم إن ارتفاع الأسعار وانخفاضها لا يؤثر على أرباب الأعمال في المدى القصير ولا يؤدي إلاّ إلى خسارة جزئية. وإنما يحصل التأثير إذا حصل هبوط الأسعار للسلعة في السوق كلها أو لجميع السلع في السوق المحلية، وكلاهما لا يحصل فيه تأثير إلا على المدى الطويل، فحينئذ تحصل الخسارة، ويصبح خطر إخراج العامل من عمله موجوداً. أما على المدى القصير فإنها تحصل خسارة جزئية يمكن تعويضها عندما يزداد الطلب على السلع والخدمات.
وإذا حصل الهبوط في جميع السلع والخدمات في السوق فإن ذلك ينتج عنه هبوط في سوق الثمن فيحصل هبوط في الأجرة وهذا يحصل لكل الأجراء أي يكون عاماً في السوق نتيجة الأزمات الاقتصادية ومثال ذلك الأزمة الاقتصادية التي حصلت مطلع سنة 2008 وقد أدت إلى هبوط سوق ثمن البيوت جراء أزمة الرهن العقاري وهبوط ثمن السيارات بل وتسريح آلاف العمال العاملين في هذا القطاع ومن بقي منهم فقد خفضت رواتبهم فالذي حصل هو أن سوق السلعة أي قوى العرض والطلب هي التي حددت ثمن السلعة وكذلك سوق منفعة الأجير أي قوى العرض والطلب هي التي حددت مقدار الأجر ونظرا لوجود نفس مقياس التبادل وهو النقد نتج القول إن الوضع الاقتصادي يؤثر على سوق منفعة الأجير وهذا لا يعني ارتباط الأجرة بثمن السلع أو الوضع الاقتصادي وهنا نعني بكلمة ارتباط هو أنه إذا حصل هبوط أو صعود في الأولى يتبعه بشكل لا يتخلف هبوط أو صعود في الثانية وهذا الشيء ليس متحققا دائماً بالنسبة لهبوط سوق السلعة وهبوط سوق منفعة الأجير. والتفسير لذلك هو أن سوق المنفعة للأجير تأثر لما حصل من هبوط في سوق السلع وذلك لا يكون إلا خلال فترة زمنية طويلة.
وعلى ذلك فان مسألة تقدير الأجرة تخضع لقانون العرض والطلب، أي هي عرض وطلب وليست مربوطة بأثمان السلع، فعلى سبيل المثال في مجال المقاولات والإنشاءات عند ازدياد أعداد العمال أو المهندسين ونقص الطلب عليهم (أي لا توجد مشاريع كثيرة تستوعب العمال والمهندسين) فان الأجرة ستنخفض، في حين لو افترضنا العكس سترتفع.
وأمر آخر أنه يلاحظ أن أجرة الأجراء تختلف باختلاف البلد، مع أنهم يبذلون نفس الجهد، ومرد ذلك إلى أن سوق المنفعة في بلد ما، اختلف تقديره عن البلد الآخر فنتج عنه اختلاف أجرة الأجير، وليس سبب ذلك أن الوضع الاقتصادي في ذلك البلد هو أفضل منه في البلد الأخر، وإن كان يلاحظ، والدليل على أن الحالة الاقتصادية ليست هي أساس التقدير؛ أن الشركات العابرة للقارات الناتجة عن العولمة لها موظفين وعملاء في كل أنحاء العالم، وأن أجورهم مرتفعة ومتقاربة لنفس الموقع الوظيفي، بغض النظر عن البلد التي تعمل فيها، ففي بعض البلدان يكون اقتصادها أفضل من غيرها ولا يؤثر ذلك على مقدار الأجر.
وعلى ذلك نرى أن الحالة الاقتصادية ليست هي التي تحدد الأجور، وإنما تحددها المنفعة، لكن للحالة الاقتصادية تأثير على سوق العرض والطلب، وبالتالي تؤثر ولا تحدد، وذلك يكون على المدى الطويل وليس على المدى القصير.
أما الواقع العملي لتقدير الأجر فإنه يسير حسب الأجير وحسب العين المؤجرة، فالأجراء أنواع ولكل واحد منهم طريقة وعوامل في التقدير فالأجير الخاص مثل العمال والموظفين في القطاع الخاص, والأجير المشترك مثل أصحاب الحرف كالخياط والحداد والنجار والبناء وما شاكلها, وأجور الأعيان كالبيوت والمحلات التجارية والمخازن وغيرها, ينظر إليها من ناحية تقديرها في ظل الظروف الطبيعية لسوق المنفعة ويكون الأجر خاضعاً للعرض والطلب, وفي حالة النزاع على الأجر يحكم للأجير بأجر المثل قياسا على مهر المثل.
وأما تقدير أجور موظفي الدولة فهي تقدر بكفاية الموظف ولا دخل لها بالمنفعة المرجوة من عمله, كونه قد تفرغ لعمل من أعمال الدولة وهذا التفرغ يمنعه من طلب الرزق ولنا أن نستأنس بما فعله الصحابة في هذا الموضوع فقد ورد في كنز العمال عن عطاء بن السائب قال: "لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد (جمع برد وهي الثياب) وهو ذاهب إلى السوق ، فقال عمر : أين تريد ؟ قال : السوق قال : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن أين أطعم عيالي ؟ فقال عمر انطلق يفرض لك أبو عبيدة ، فانطلقا إلى أبي عبيدة فقال : أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت (بليت) شيئا رددته وأخذت غيره ، ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن". وذكر أيضا عن ميمون بن مهران قال : "لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال : زيدوني ، فان لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمس مائة".
وأيضا روى ابن سعد في الطبقات في خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن عطاء بن السائق قال:"لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال له : أين تريد يا خليفة رسول الله ؟ قال السوق قالا : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال فمن أين أطعم عيالي ؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئا ، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة و ما كساه في الرأس والبطن".
وجاء في "الرياض النضرة في مناقب العشرة" عن إبراهيم بن محمد بن سعيد بن عباس قال: "كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السنة وشاة في كل يوم يؤخذ منه بطنها ورأسها وأكارعها فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله قالوا وقد كان ألقى ماله في مال الله حين استخلف قال فخرج إلى البقيع فتصافق قال فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس فقال ما شأنكن قلن نريد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بيننا فانطلق يطلبه فوجده في السوق قال فأخذ بيده فقال: هنا تعال. فقال: لا حاجة لي في إمارتكم رزقتموني مالا يكفيني ولا عيالي قال: فإنا نزيدك قال: أبو بكر ثلاثمائة دينار والشاة كلها قال: أما هذا فلا فجاء علي وهما على حالهما تلك فلما سمع ما سأله قال: أكملها له قال: ترى ذلك قال: نعم قال: فقد فعلنا فقال: أبو بكر أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بها بقية المهاجرين أم لا فانطلق أبو بكر فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ بطنها ورأسها وأكارعها وإن عمر وعلياً كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم فقال: المهاجرون اللهم نعم قد رضينا".
وروى ابن سعد في الطبقات في خبر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : "يحل لي حلتان، حلة في الشتاء وحلة في القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم". وقال أيضا: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف". قال وكيع في حديثه: فإن أيسرت قضيت.
إنه وإن كانت الحوادث تعلقت بمنصب رئاسة المسلمين والحكم إلا أنه ينطبق على كل من يكلف بعمل من أعمال الدولة سواء في جهاز الحكم أو الجهاز الإداريّ ولذلك يكون أجره بمقدار كفاية الموظف من حاجاته الأساسية والكمالية مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل وظيفة تختلف عن الأخرى بكمالياتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد ذيب