تأملات في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية" الحلقة السادسة والسبعون
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية". ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو: "أحاسنكم أخلاقا" وقد سبق الحديث عن ستة عشر من الأخلاق الحسنة:
سابع عشر: الإعراض عن الجاهلين: قال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}.(الأعراف199) وقال:{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}. (الفرقان63). عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قدم "عيينة بن حصن" فنزل على ابن أخيه "الحر بن قيس بن حصن" وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا، أو شبانا, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي, هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه, قال ابن عباس: فاستأذن لعيينة, فلما دخل قال: "يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل, وما تحكم بيننا بالعدل". فغضب عمر حتى هم بأن يقع به, فقال الحر: يا أمير المؤمنين, إن الله تعالى قال لنبيهصلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.
والخطأ لا يعالج بالخطأ, والجهل لا يقابل بالجهل, كما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحـد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
كنت أسير مع أستاذ فاضل فرآنا أحد السفهاء من طلابنا الذين كنا ندرس لهم, فأخذ يجهل علينا, فما كان منا إلا أن مضينا في طريقنا, وكأن شيئا لم يكن, ودون أن نلتفت إليه, وقلت لصاحبي لأسري عنه: الكلاب تنبح والقافلة تسير, ولن يضر القافلة نباح الكلاب! ولسان حالي يقول كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
إذا نطـق السفيـه فلا تجبه فخيـر من إجابته السكوت
سكت عن السفيـه فظن أني عييت عن الجواب, وما عييت
إذا أجبتـه فرجـت عنـه وإذا تركته كمـدا يـموت
وفي يوم من الأيام جلست مجلسا يضم نخبة من حاملي الدعوة من أهل العلم والفضل، ودار الحديث عن كيفية تلقي الإساءة، والتعامل معها إذا صدرت من سفيه لا يحسب حسابه فيما يقول، فتباينت أجوبة الحاضرين، فكان أسدها -في نظري- إجابة أجابها أحدهم بقوله: العلاج يوجد في قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}.
فلما انفض ذلك المجلس صرت أتفكر في تلك الآية العظيمة التي تعد بلسما لكثير من الأدواء التي يبتلى بها كثير من العقلاء، حيث يبتلون بمن لا خلاق لهم من السفهاء الذين يثيرون حولهم الغبار، ويسيئون إليهم بالكلام البذيء المؤذي. ويكثر ذلك في بعض التجمعات التي تضم خليطا من الناس، كما يشيع في مجتمعات الطلاب والمعلمين. وخير علاج لتلك الإساءات هو الإعراض عن الجاهلين، فمن أعرض عنهم حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه. قال عز وجل: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن الطائفة التي تتلذذ بالمهاترة والإقذاع.
قال أبو الأسود الدؤلي:
فاتـرك محـاورة السفيـه فإنها نـدم وغـب بعـد ذاك وخيـم
وإذا جريت مع السفيه كما جرى فكلاكما فـي جريـه مذمـوم
وإذا عتبت على السفيـه ولمـته في مثـل ما تأتـي فأنت ظلـوم
يا أيهـا الرجـل المعلـم غيـره هـلا لنفسك كـان ذا التعليـم
تصف الدواء لـذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
أتراك تصلـح بالرشـاد عقولـنا أبـدا وأنت من الرشـاد عقيـم
لا تنه عن خلـق وتأتـي مثلـه عـار عليك إذا فعلت عظيـم
ابـدأ بنفسك فانههـا عن غيـها فـإذا انتهت عنـه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتـدى بالعلم منـك وينفـع التعليـم
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلـما كعود زاده الإحـراق طيبا
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشـر مفـتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرفا وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسى لعمري وهو نباح
فإذا التزم المسلم بالأخلاق الفاضلة, باعتبارها أحكاما شرعية واجبة الاتباع طاعة لله: امتثالا لأوامره, واجتنابا لنواهيه, فإنه يسمو ويرقى في المرتقى السامي من علي إلى أعلى, ومن شاهق إلى شاهق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي