الرسائل الفقهية للثورة الإسلامية
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الفقه يمثل الحد الفاصل بين النجاح والفشل في أي مجتمع ما ، ويمثل صمام الأمان وحجر الزاوية بالنسبة للأمة الإسلامية التي تتطلع نحو النهضة . وفي ظل الحراك السياسي الراهن أو ما سمي بالربيع العربي يتساءل الجادون من أبناء الأمة والراغبون في الثورة الإسلامية يتساءل كل هؤلاء عن جدوى التظاهرات والانتفاضات وإلى أي مدى يمكن أن يتحقق مضمون شعار الثوار ( الشعب يريد إسقاط النظام ) .. وقد انقسم المهتمون بهذا الأمر إلى عدة مذاهب فمنهم من قال إن تغيير الإدارات الحاكمة الحالية لهو مطلب شرعي يزكيه الإسلام ويباركه ، ومنهم من يرى عكس ذلك تماماً فيقول بحرمة الخروج على الحكام وضرورة الصبر على أذاهم وإن ضربوا ظهر الشعوب وأكلوا أموالهم ، وهناك أصحاب المذهب الصامت وهم الأغلبية والأكثرية التي تجلس على مدرجات المشاهدة والمتابعة عن بعد .
وكما اختلف الناس في نظرتهم لهذه التظاهرات كذلك اختلف المتظاهرون أنفسهم في الغايات والأهداف التي يسعون نحوها فظهر من بينهم المذهب الديمقراطي الذي يرى أن الإشكالية الحقيقة هي عدم وجود حكم ديمقراطي في البلاد الثائرة ولذلك جعلوا من المطالبة بالديمقراطية غاية عليا وهدفاً نبيلاً يسعون لتحقيقه من خلال التظاهرات والضغط على الحكام . وكذلك وجد من يطرح الشعارات التحريرية التي تدعو لتحرير البلاد من كل أشكال الاستعمار والتسلط الأجنبي على مقدرات وثروات الأمة ، وأصحاب هذا الرأي يقولون إن الأزمة الحقيقة والمشكلة الجوهرية تكمن في وجود دساتير وأنظمة وقوانين تخالف عقيدة الأمة فهي أس الداء وسبب البلاء لذلك تراهم يدعون إلى اجتثاث هذه الأنظمة من جذورها باعتبار أن هذا هو طريق الصلاح والنجاح للثورة . وفوق كل هذا وذاك تنشأ الحاجة الملحة لوجود فقه يفسر تلك الممارسات التي يقوم بها بعض الثوار من إتلاف للممتلكات والمنشآت. فالحكام يعتبرون من يقوم بهذه الأعمال ما هم إلا جرذان يجب إبادتهم والضرب على ظهورهم بيد من حديد ولذلك تطلق العنان لأصحاب شرطتها وأجهزة أمنها لتقول كلمتها عبر البنيان وأسوار القضبان وكل أشكال التنكيل والتهديد والترويع . ولما كنا نعاني من الانحطاط والانحدار الشديدين كان تطلعنا نحو النهضة أمراً مشروعاً بل هو مطلب واجب .. فكيف السبيل إلى النهضة ؟ وما هو الفقه الذي يجب أن يلازم الثوار لتحقيق هذه الغاية ؟
وقبل أن ندلف إلى تفصيلات الموضوع دعونا نعرف الثورة مناط البحث فهناك عدة تعريفات للثورة منها ذلك التعريف الذي ظهر مع الثورة الفرنسية وهو قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة، وقد طور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال التي أسموها البرولتاريا، ومن خلال استقراء أحكام الإسلام نستطيع أن نعرف الثورة الإسلامية التعريف التالي : ( الانتفاض على الواقع الفاسد وفقاً لما تمليه عقيدة الإسلام من فقه في ممارسة التغيير بالحجة والموعظة الحسنة والبرهان المبين لإفهام الناس أحكام الإسلام من أجل أن يتبنوها لتطبق عليهم في معترك الحياة) وبهذا المعنى للثورة نستطيع أن نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول الثائرين وإمام المنتفضين على الشرائع الأرضية من أجل سيادة الشرعة السماوية الإسلامية يقول الحق تبارك وتعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) فقد خرج رسولنا الكريم في أول تظاهرة له في تاريخ هذه الأمة يوم أن خرج بمكة وصحابته الكرام في صفيين على رأس احدهما الصحابي الجليل حمزة بن عبد المطلب وعلى الصف الثاني الصحابي الجليل الفاروق عمر بن الخطاب في سياق دقيق ومنظم لم تعهده جزيرة العرب من قبل فكان أن طاف بهم الكعبة الشريفة معلناً الثورة الإسلامية الكبرى على كل الأديان الوضعية والكهنوتية.
وهنا يجب التفريق بين الثورة الإسلامية - التغيير الجذري للواقع - والأساليب والوسائل التي تخدم تلك الثورة ، فالتظاهرات والمسيرات وغيرها تعتبر من الأساليب التي تخدم الثورة فتحقق من خلالها مكاسب سياسية لكنها ليست هي الثورة المرجوة .
وهنا نورد بعض الأهداف التي يمكن للثوار تحقيقها من خلال هذه التظاهرات:
أولاً : إشاعة ثقافة النضال والكفاح والمواجهة ضد الظلم والقهر لدى جماهير الأمة مما يشيع فيها أجواء النضال العقدي والكفاح السياسي وهذا مطلب شرعي .
ثانياً : تدرك الأغلبية الصامتة من أبناء الأمة أن فكرة هؤلاء الثوار فكرة عملية يمكن المطالبة بتطبيقها والإصرار على تنفيذها مما يجعلهم يلتحقون بالركب الثائر وبهذا تنمو الثورة نمواً مطرداً من علٍ إلى أعلى .
ثالثاً : إن خروج الثائرين للمطالبة بتطبيق الإسلام تجعل إمكانية تواصلهم مع العسكر وأصحاب القوة أمراً في متناول اليد وتحرك إرادة العسكر في اتجاه نصرة الثائرين .
رابعاً : يرسل الثوار لشريحة العلمانيين الرافضين لتحكيم الدين في العمل السياسي رسالة شديدة اللهجة مما يجعلهم يدخلون جحورهم ولا يجاهرون بعداوتهم ورفضهم لتطبيق الإسلام .
خامساً: يدرك الحكام أنهم يحكمون أمة حية فاعلة مما يجعلهم يتراجعون عن الكثير من سياساتهم الخرقاء انصياعاً لرغبات الجماهير الثائرة وسعياً منهم للمحافظة على الاستمرار في الحكم وعدم إغضاب الجماهير .
سادساً : من خلال التظاهرات الجماهيرية تكون الأجواء مهيأة لمخاطبة الجماهير وتغذيتها بالأحكام الشرعية العملية .
سابعاً : تتيح التظاهرات لحملة الدعوة من أبناء الأمة الظهور بمظهر القادة الواعين المدركين دقائق الأمور وبواطنها وتبرزهم كقيادات بديلة للأوساط السياسية المتحكمة في مجريات الأحداث في بلدانهم .
تلك سبعة كاملة أردنا من خلالها أن نشير إلى بعض الأوجه الحسنة التي يمكن أن تصاحب التظاهرات والانتفاضات في بلاد المسلمين.
أما المخالفات الشرعية التي يمكن أن تحدث في هذه التظاهرات فنشير إليها كالآتي :
أولاً : أعمال التخريب للممتلكات والمنشآت التي عادة ما تبدر من بعض المتحمسين والناقمين على النظام القائم .
ثانياً : قد تحاول بعض الجماعات الطفيلية الرأسمالية اعتلاء أكتاف الجماهير ومحاولة توجيه الثورة في الاتجاه الديمقراطي العلماني .
ثالثاً : رفع المتظاهرين لبعض الشعارات التي تناقض عقيدة الأمة بجهل أو عدم وعي منهم .
رابعاً: ردة الفعل العنيفة من الدولة حيث تطلق أيدي جلاوزتها وشرطتها لتتفنن في ضرب وقهر وإيذاء المسلمين.
إن من أخطر القضايا التي يمكن أن تواجه مسار الثورة وتجعل منها حركة لولبية تنتهي بالخمود واليأس هي قضية ( شخصنة الأزمات ) ونعني بها أن يتبادر إلى أذهان الثوار أن المشكلة تكمن في وجود أشخاص فاسدين، ومن ثَمَّ هم يحاولون الإتيان بمن يظنون أنهم شرفاء لعلاج المشكلة ..ومن هنا كان لزاماً على مريدي النهضة أن يبينوا للثوار أن المشكلة ليست وجود أشخاص فاسدين - وإن كان هذا واقعاً - وإنما المشكلة الحقيقية وسبب الأزمات المتلاحقة هي وجود فساد بنيوي في النظام المطبق. ولتوضيح هذا الأمر يحتاج حامل الدعوة لأن يتناول نماذج من السياسات المبنية على وجهة النظر الرأسمالية ليبين للناس فسادها وأوجه الظلم فيها ، وعلى سبيل المثال عندما يتحدث الناس عن الضائقة المعيشية ويعتقدون أن الحل يكمن في إقالة وزير المالية باعتباره شخصاً فاسداً نقول لهم إن المشكلة في الضائقة المعيشية ليس سببها وجود وزير فاسد في وزارة المالية، وإنما المشكلة أن هذه الوزارة تتبنى مجموعة من السياسات مبنية على أساس قوانين وأنظمة تعتبر مخالفات شرعية في المقام الأول وهي تفرخ الظلم بشكل طبيعي، وهي في ذاتها تعتبر ظلماً باعتبارها شرعة أرضية وحكماً بغير ما أنزل الله ..ولا نكتفي بذلك بل نوضح كيف أن الإسلام عالج هذه المشكلة علاجاً جذرياً فمثلاً:
* حرم الإسلام الضرائب والجمارك وضريبة القيمة المضافة وأكل أموال الناس بالباطل وهذه كلها تساهم في غلاء السلع والخدمات وضنك المعيشة التي يعاني منها الناس. يقول صلي الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة صاحب مكس).
* لا يجوز في النظام الاقتصادي في الإسلام التعاملاتُ الربويةُ القائمةُ اليوم كالاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مما يجعل الدول عرضة لفقدان إرادتها والتبعية العمياء للدول الدائنة والدخول مع رب العالمين في حرب لا طاقة لنا بها .( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. ).
* عالج الإسلام مشكلة الفقر بأن أوجب على الدولة توفير المأكل والملبس والمسكن لكل من لا يستطيع ذلك من رعاياها بقطع النظر عن دينهم أو لونهم ..حتى إنه شرع قوانين في حالة عدم مقدرة الدولة القيام بهذا الفرض، فتفرض الدولة على فضول أموال الأغنياء ضريبة - غير دائمية - لسد العجز حتى توفر التطبيب والتعليم والأمن لمجموع الناس من رعاياها.
* جعل الإسلام الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، ولذلك تعتبر المعادن التي لا تنقطع من ذهب وفضة وبترول ويورانيوم وغيرها جعلها الإسلام ملكية عامة فأوجب على الدولة توزيع ناتج هذه المعادن على أبناء الأمة توزيعاً عادلاً بغض النظر عن حاجتهم لهذا المال أو عدم حاجتهم له باعتبارها ملكاً لهم فليس للدولة من عائداتها سوى تكلفة التنقيب والتكرير والتعدين وما إلى ذلك .
* إن النظام الاقتصادي في الإسلام يهتم بالحيوان والطير والنبات والجماد، فضلاً عن اهتمامه بالإنسان، فهو نظام يقوم على أساس رعاية شئون الناس وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الأساسية والكمالية من خلال مجموعة من الأحكام الشرعية التي فرضها لذلك .. وهذا يشمل بيئتهم المحيطة بهم، والتي هي مسخرة للإنسان، والأمثلة تطول في هذا السياق.
وهكذا يتفقه الثوار بالأحكام الشرعية العملية التي فرضها الله تبارك وتعالى لعلاج مشكلاتهم التي ثاروا من أجلها كما يتضح لهم فساد وبطلان الأنظمة المطبقة عليهم اليوم باعتبارها مخالفات شرعية ونبين ذلك من خلال توضيح حرمتها ومناقضتها للشريعة الإسلامية .
ويجب أن يعلم الثوار أن التظاهرات والانتفاضات والاعتصامات ما هي إلا أساليب يتبناها الثوار لتحقيق مكاسب سياسية، وهي ليست مطلباً في حد ذاتها ولا غاية، وإنما المطلب هو الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وبعثت من أجلها الأمة تلك التي لخصها ربعي بن عامر عندما وقف مخاطباً رستم قائلاً له: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) . ولما كانت هذه هي غاية التظاهرات كان طبيعياً أن يلتزم المتظاهرون بأحكام الإسلام الذي حرم الضرر والإيذاء وأعمال التخريب فكل هذه مخالفات شرعية يحرم القيام بها من قبل الثوار أو غيرهم .
عصام أحمد أتيم