مقالة ما بين الشرعية والشريعة ما بين السموات والأرض
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ساد مصرَ منذ ثورة 23 يوليو 1952م وحتى 25 يناير 2011م حكمٌ عسكريٌ مستبدٌ، أدى إلى قمع أي صوت معارض، كما أدى إلى استشراء الفساد، واستفحال الظلم، واختزال النظام والدولة والحكم في شخص الحاكم، وكانت أمريكا الدولة الأكثر كذبا في التاريخ- بادعائها دعم الديمقراطية والحرية- أكبر داعم لهذا النظام العسكري المستبد طوال هذه الفترة، وهي لم تختفِ من المشهد السياسي المصري، لا قبل تاريخ 25 يناير، ولا بعده. فالذي يبدو أنها عادت تَحنّ لعصور الاستبداد العسكري في مصر. فقد دعمت بشكل واضح انقلاب الجيش على رئيس تم انتخابه من خلال الديمقراطية التي تتشدق بها، وتروجها وكأنها الدين الجديد الذي تبشر به العالم. ونحن لا نستثني الفترة التي حكم فيها الدكتور مرسي من الهيمنة الأمريكية الواضحة على مفاصل وزوايا الحكم، فقد ظهر هذا بوضوح من خلال التدخل الواضح والسافر للسفيرة الأمريكية في القاهرة، وغيرها من السياسيين الأمريكيين، والمراعاة التامة للمصالح الأمريكية في المنطقة، بداية من الحفاظ على أمن دولة يهود، ومرورا بالخضوع التام للمؤسسات الدولية التي تسيطر عليها أمريكا، وانتهاءً بتنفيذ المؤامرة الأمريكية في سوريا التي تتلخص بدعم غير مباشر لنظام الأسد لحين إيجاد أو صناعة البديل.
ولذا فإن حديث من هم في الحكم الآن بعد الانقلاب عن تبعية نظام ما قبل 30 يونيو للأمريكان لا يمكن نفيه، ولكن حكام ما بعد الانقلاب يدورون أيضاً في فلك أميركا والتبعية لها بشكل سافرٍ مفضوح، ومحاولة تصوير ما حدث بأنه انفكاك من التبعية الأمريكية هو فرية مضحكة، فأصابع الإدارة الأمريكية وتصريحاتها قبل الانقلاب وبعده تدل بشكل واضح أنها تقف بكل قوة خلف الجيش الذي هو الضامن والحامي للهيمنة الأمريكية على البلاد. إذاً فالطرفان غارقان إلى آذانهما في الانسياق وراء أمريكا عدو الأمة اللدود، ومن السذاجة تصور أن أمريكا تريد خيرا لهذا البلد، بل هي تكيد له صباح مساء، وتمسك بكل الخيوط في الواقع السياسي المصري، لتصل به إلى حالة من الارتباك والدوران في حلقة مفرغة، تجعل من الاستقرار أمرا صعبا. لقد كانوا سابقا يقولون دعونا نعقد الانتخابات البرلمانية حتى تستقر البلد، ثم قالوا دعونا نتفق على رئيس حتى تستقر البلد، وبعدها قالوا دعونا نمرر الدستور حتى تستقر البلد....، وإذا بهذا الاستقرار المزعوم لا يأتي أبدا، إنها لعبة الديمقراطية التي استبدلت بالاستبداد والقمع الممنهج من خلال الانقلاب عليها، في مشهد دراماتيكي تم الترتيب له بخبث منقطع النظير، وضع أنصار التيار الإسلامي في خانة التطرف والإرهاب وأعداء الاستقرار وأعداء الديمقراطية، وأعداء الشعب. إنه تخطيط جهنمي لتبرير القتل والاعتقال والتنكيل بكل من يحمل لواء تطبيق الشريعة، حتى لو أراد ذلك من خلال الديمقراطية المزعومة التي تروج لها أمريكا في بلاد المسلمين، ولكنها تنقلب عليها وقتما تشاء وأينما تشاء.
والغريب أن ينتفض بعض أنصار التيار الإسلامي نصرة للشرعية، في غياب تام للحديث عن الشريعة التي ما طبق منها شيء، من قبل حاكم كان المتصور أن يأتي بالإسلام ليحكم به، ولكن هذا التصور انقلب إلى سراب، كما هو سراب الحديث عن الشرعية اليوم، فالشرعية الديمقراطية هي شرعية مشروطة بالرضا الأمريكي، والرضا الأمريكي مرهون بحجم التنازلات، التي يريدها أن تصل لحد التخلي عن الإسلام، وبرغم عدم ممانعة من كانوا في الحكم بالقبول بخلع أحكام الإسلام قبل دخولهم بلاط الديمقراطية المقدسة، إلا أن دولة الكفر أمريكا لا ترضى إلا بخلعهم ربقة الإسلام من عنقهم.
نعم إن الحديث في هذا الظرف العصيب عن تلك الشرعية، كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، فعن أي شرعية نتحدث؟ وعن أي ديمقراطية نتحدث؟ فتجربة الجزائر الأليمة ليست عنا ببعيد، ولا تجربة حماس في غزة، فالذي يريد أن يُحكِّم شرع الله، عليه أن يسلك الطريق الذي يوصله لمبتغاه مقتفيا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لم يقبل الحكم منقوصا، ولم يقبل أن يكون أمان دولته الناشئة في مهب الريح، فهذا الحكم الإسلامي لا ينبغي إلا أن يحاط من جميع جوانبه. فالشرعية الحقة تكون باتباع الشريعة، ولفظ تلك الديمقراطية العفنة التي صنعها أصحابها ليستغلوها للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم في بلادنا.
وشتان ما بين الشرعية الديمقراطية، والشريعة الربانية، فالفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض. ولا يتأتى أصلا إقامة دولة الإسلام وتطبيق الشريعة بالتوافق مع قوة تجعل من الإسلام السياسي خصما وعدوا، هذا فضلا عن كونه مخالفا لطبيعة الدولة التي نبغي إقامتها، ولعله من السخف الحديث عن أرضية مشتركة يقف عليها الطرفان المتناقضان، فالدول المبدئية الحقيقية، تقوم على مبدأ يشكل بعقيدته ونظامه المتناغم المنسجم، الأرضية الصلبة التي تقوم عليها كل الأحكام والقوانين التي تنظم علاقات الناس جميعها، فيؤسسون دولتهم تلك بعد أن تلتف حولها غالبية الأمة، وترضى بها نظاما سياسيا حاكما، بعيداً عن لغة التوافق المائعة بين متباينين، بل متناقضين. فالأحزاب والحركات التي يريدون التوافق معها، هي أحزاب رأسمالية تفصل الدين عن الحياة، وتستبعد أي دور له في تنظيم المجتمع والدولة والأمة، حيث ينص مبدؤهم على جعل السيادة للشعب، فهو صاحب الحق في وضع الدستور، وإقرار القوانين والتشريعات المنظمة للحياة في المجتمع والدولة، وهذا لا ينطبق بأي حال على المبدأ الإسلامي، الذي تسلم الأمة فيه بأن التشريع لله وحده، يقول تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ)، (فلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
إن مواجهة هذا الانقلاب لا تكون بالحديث عن الشرعية، والإصرار على الديمقراطية حكما وفيصلا، بل تكون بنشر الوعي بين الناس على فرضية الحكم بالإسلام من خلال دولة الخلافة الإسلامية التي هي نظام الحكم في الإسلام الذي حدده لنا الإسلام وأصر عليها، حتى تصبح هذه الفكرة رأيا عاماً بين الناس ومطلباً للجماهير لا ترضى عنه بديلاً، تستعد للموت من أجلها وتملأ الميادين نصرة لها، وإيجادها أيضاً بين أصحاب القوة في الجيش، حتى يقف الجيش مع الأمة في مطلبها وليس ضدها، وحينئذ يكون التغيير قاب قوسين أو أدنى، ويكون محتماً لا يمكن لقوة في الأرض أن تقف أمامه، وعلى العاملين لهذا الهدف رفض الديمقراطية بكل أشكالها، والنظم الوضعية الفاسدة كالجمهورية والملكية، وعدم الرضا بغير نظام الإسلام بديلا وحُكما، والقناعة التامة بقدرة الإسلام على الحكم وسياسة شئون الناس به، ورفض التبعية الأمريكية، بل وقطعها وقلع أي نفوذ لها في بلاد الإسلام.
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر