أفريقيا بين نور الإسلام وظلام الرأسمالية 2 الجمهورية الفاشلة في الصومال
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر أمير الرحالين القاضي والفقيه المغربي محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي الشهير بابن بَـطُّوطَة في رحلته المعروفة "تحفة النظار": أنه وصل إلى مقديشو في 1331م وهي مدينة متناهية في الكبر ومليئة بالتجار الأغنياء، ومعروفة بالسلع ذات الجودة العالية التي تصدّر إلى دول أخرى بما فيها مصر. ويصف الاستقبال والحفاوة التي لقيها: "إنه لما صعد الشبان المركب الذي كنت فيه جاء إليَّ بعضهم، فقال له أصحابي: هذا ليس بتاجر وإنما هو فقيه؛ فصاح بأصحابه، وقال لهم: نزيل القاضي! وقالوا لي: إن العادة هي أن الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان، فذهبت معه إليه كما طلبوا..."، وأكرموه لمدة ثلاثة أيام. ويقول ابن بطوطة: لما كان اليوم الرابع جاءني الأقاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ (السلطان) وأتوني بكسوة، وكسوتهم فوطة خِزّ يشدها الإنسان في وسطه وذراعه من المقطع المصري مغلقة وفرجية مبطنة وعمامة مصرية، كما أتوا لأصحابي بكساء، ثم أتينا الجامع، فسلمت على السلطان، ثم قال باللسان العربي: قدمت خير مقدم، وشرفت بلادنا، وآنستنا".
عُرفت مقديشو بمدينة الإسلام، مدينة زاهية بهية يعمها الرخاء والسلام وانشغل أهلها بحماية ثغور المسلمين في الجنوب وحمل الإسلام إلى الساحل الشرقي الأفريقي، مدينة تحتفي بالعلم والعلماء وتغدق عليهم ويقصدها طلبة العلم من الساحل الشرقي لأفريقيا. كانت الصومال ملتقى القوافل وطرق الملاحة البحرية ومركز تجاري هام ووسط بين شبه القارة الهندية وأوروبا من جهة والجزيرة العربية والساحل الأفريقي من جهة أخرى. انتشرت الموانئ في الصومال كونها تمتلك أطول ساحل على المحيط الهندي فأصبحت نقطة امتزاج لعادات وثقافات مختلفة ووصلت للصومال منتجات من إندونيسيا والشرق الأدنى وكانت مقصد للتجار من شبه الجزيرة الهندية لما تميزت به من موارد طبيعية غنية واشتهرت بجودة وتنوع منتجاتها، واستمر هذا الحال إلى عهد قريب. ذكرت صحيفة الحياة في 30 تموز 2012 أن أهل الصومال استفتوا قبل 120 عام عن جواز إعطائهم أموال الزكاة لأهل نجد بعد أن ألمت بهم مجاعة، وهذا موثق في مخطوط موجود في العاصمة الصومالية. كان هذا حال الصومال في عصور مضت. أما حالها اليوم فلا يخفى على أحد، لقد أتت على الصومال بعد هذا الرخاء سنون عجاف كأنها قرون، أتى من بعد الرخاء ضنك ومن بعد السعة فقر مدقع حتى بات الصائم يخشى من وصل الصوم لأنه لا يجد ما يفطر عليه. وأتى بعد الأمن والسلام قتل وتشريد وترويع، هذه المدينة الزاهية أصبحت شبح مدينة يعلوها صوت الموت والدمار.
تصدرت الصومال قائمة الدول الفاشلة الذي أصدرتها مجلة السياسة الخارجية الأمريكية أخيراً في حزيران 2013م ولم يستغرب أحد أن تكون الدولة الأفشل من أصل 178 دولة ضمها التقرير وبالرغم من استناد التقرير لإثني عشر مؤشراً اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً وعسكرياً إلا أن بعض هذه المؤشرات ليست عالمية (زج بها لفرض النظرة الغربية والحكم بمقاييس منافية لحضارة الأمة الإسلامية مثل ازدياد عدد السكان وسوء توزيعهم والحركة السلبية للهجرات واللجوء) وبغض النظر عن المؤشرات والأرقام فالفشل ظاهر للعيان ولا يحتاج لمثل هذه التقارير حتى أن الصومال أصبحت مضرباُ للمثل في فشل الدولة والكل ينادي في ثوراتهم "لن نصبح مثل الصومال" فأصبح النموذج الصومالي يلخص كل ما هو سلبي وأصبحت الصورة الأبرز عن الصومال هي الحرب الأهلية والاقتتال القبلي والقرصنة والمجاعة والدمار العمراني والاقتصادي والحكومات المتتالية التي تسيطر عليها المليشيات. وتركزت هذه الصورة في الأذهان في العقدين الماضيين حتى أنها محت أي ذكر وأثر لما سواها فأصبحت الصومال رديف الفشل وبات الغرب يعقد المؤتمر تلو المؤتمر لينقذ هذه الدولة وأهلها من هذا المصير المظلم ويهدي لهم النموذج الليبرالي الديمقراطي الذي يصوره على أنه الدواء والشفاء.
الدولة الصومالية كان رديفها الفشل من قبل أن يتم إنشاؤها حين قسم مؤتمر برلين عام 1885 الصومال إلى ثلاثة أقاليم، وزعت على ثلاث دول أوروبية استعمارية حيث مُنح الصومال الفرنسي جيبوتي حالياً لفرنسا، والصومال الجنوبي لإيطاليا، والصومال الشمالي أرض الصومال لبريطانيا وحصلت بريطانيا أيضاً على الصومال الغربي أوجادين والصومال الجنوبي الشرقي "إن إف دي" ووهبتهم بريطانيا لاحقاً لكل من كينيا وإثيوبيا متبعة بذلك سياسة فرق تسد للبقاء على صراعات بين الصومال وجيرانه ركز تقسيم البلاد لفجوة داخلية بين شمال الصومال وجنوبه لم تنمحي آثارها ليومنا هذا وبالرغم من العلم الواحد ومظاهر الوحدة بعد الاستقلال الرسمي عام 1960 لم يكن المجتمع نسيج متجانس. كيف يكون الصومال نسيجا متجانسا وقوى الإحتلال قسمت البلاد وحرصت على بث النعرات العنصرية وزرع الفرقة بين القبائل لتكسر شوكة أي معارضة للإحتلال فقربت زعماء القبائل لها كل على حدى وكسبت ولاء بعضهم ليصوروا المستعمر على أنه الأمان والدرع الواقي وواصلت هذه السياسة لما بعد الإستقلال المزعوم.
وبالرغم من هذا الماضي الأسود يصر الغرب وأبواقه ليومنا هذا على أن الديمقراطية والنموذج الليبرالي الغربي سيخلق المناخ المناسب لتحقيق توازن قبلي في الصومال بحيث تتوافق القبائل على نظام معين. الغريب في هذه الأطروحة الغربية أنها تفترض أن القبلية هي أساس النزاع في الصومال وما هذا إلا ذر للرماد في العيون وأكذوبة تم تداولها إعلامياً. القبلية موجودة منذ الأزل ولم تضعف المجتمع الصومالي في السابق بل كانت عنصر قوة في المجتمع الصومالي حين نظر لها الناس من منظور إسلامي ووظفها المجتمع في إطار التعارف والتكاتف وصلة الرحم وتفاخرت القبائل بقيم الإسلام والتقرب لله بكل ما يرضيه وكان أكرمهم أتقاهم. القبلية أصبحت سلاح للتقاتل حينما انتشر الفساد واتبع النظام الجمهوري بقيادة محمد سياد بري سياسة الإقصاء والحرمان لكل أعدائه وكثرت المزايدات القبلية من جميع الأطراف مستغلين سياسة المصالح والتوازن الإقليمي التي فرضتها القوى الاستعمارية على المنطقة. القبلية لم تكن السبب في الحرب الأهلية ولا العامل المحرك لها بل كانت أداة من ضمن الأدوات، والسبب الرئيسي في الحرب الأهلية وفشل الدولة الصومالية هو هشاشة النظام الجمهوري وعجزه عن أن يلم شعث دولة صنعها الاستعمار الغربي على عُجالة ووضع لبنة الفرقة بينها بخبث ومكر. دولة افتقرت منذ البداية لمقومات النجاح من فكرة مبدئية تصهر الشعوب وتتوافق مع عقيدتهم ورابطة صحيحة توحد الناس على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ولأنظمة تعالج مشاكل المجتمع وتوفر رؤية ثاقبة لعلاقات الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هذا التكوين السياسي الهش كان له أثر على كل مناحي الحياة وأبرزها النظام الاقتصادي الذي تعرض للمشاريع الغربية التخريبية عبر تدخل صندوق النقد الدولي وبرنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية التي حولت مسار الاقتصاد لتجعل من الصومال الذي كان يحقق الاكتفاء الذاتي من الغلال حتى السبعينات من القرن الماضي إلى دولة تعتمد على غيرها. تحول الصومال في عقد من الزمان عبر مغامرات اقتصادية عبثية خبيثة من دولة مصدرة ذات اقتصاد نشط إلى دولة تعتمد على المعونات. ظلت الحكومة الصومالية تلهث وراء مقترحات وأوامر صندوق النقد الدولي من تطبيق سياسات التقشف إلى تخفيض قيمة العملة المحلية (الشلن) مقابل الدولار في 1981 إلى رفع الدعم عن الوقود والسلع الأساسية وإهمال الثروة الحيوانية الغنية مقابل التركيز على زرع الثمار التجارية المرغوبة في الأسواق العالمية وغيرها من السياسات التخريبية. هذا التدمير الممنهج للاقتصاد تبعته سياسة الدول المانحة التي أتت من أزمة الغذاء في الصومال وارتكزت على توزيع المعونات على شكل غلال لتنشر اتكالية وخمول اقتصادي حول الأرض الخصبة لبوار بينما يتفرج عليها المزارعون في حسرة وكمد. بل إن الحال وصل ببعض الهيئات التي تدعي الإنسانية مثل برنامج الأغذية العالمي بأن حاربت المزارعين الصوماليين في قوتهم وقوت عيالهم باستيراد وتوزيع معونات غذائية في موسم الحصاد عام 2011 ليضيع بذلك جهد المزارعين الساعين لإحياء الأرض والعمل على الاكتفاء الغذائي والاستغناء عن المعونات الغربية. لو أرادت هذه الهيئات مساعدة الاقتصاد الصومالي لاشترت الغلال من المزارعين المحليين وقامت بتوزيعها ولكنها هيئات مسيسة. خلاصة القول أن فشل الدولة الصومالية صنع في الغرب وتمت حياكته بعناية ومهارة عبر سياسات أدت لازدياد الفقر والاقتتال على الفتات وكثرة الموت والدمار. كلما زادت مظاهر الفشل كلما تركزت الفكرة في أذهان الجميع "لن نسمح بأن تتكرر تجربة الصومال في أرضنا" .. ولعل مسببات هذا الفشل الذريع لا تخص الصومال وحده. حقاً، الصومال عبرة ومثال لدولة خُلقت لتكون فاشلة، مثال لمؤامرات المستعمر ومكره، مثال على مغبات تطبيق النموذج الديمقراطي الجمهوري مثال على حتمية التحرير الحقيقي من الاستعمار وخيوطه وأذنابه.. أفلا نتعظ !!
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْعَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْلَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿٢٩﴾ وَإِذْ يَمْكُرُبِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُاللَّـهُ ۖ وَاللَّـهُ خَيْرُالْمَاكِرِينَ ﴿٣٠﴾ )
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم يحيى بنت محمد