الهجرة حدث مفصلي في تاريخ الأمة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كانت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حدثا مفصليا في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد كانت إيذانا بتأسيس دولة الإسلام الأولى، وبها أصبح الإسلام ممثلا في دولة تطبقه في الداخل وتحمله للخارج رسالة رحمة وهدى للعالمين. بالهجرة أصبح الإسلام دينًا منه الدولة وليس مجرد دين ينظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه، وبها أصبح للإسلام دولة تسوس الناس وفق أحكام الله التي بدأت تتنزل لتنظم العلاقات بين المؤمنين بعضهم ببعض، وبينهم وبين غيرهم، كما تنظم العلاقات بين الدولة الإسلامية الناشئة وبين غيرها من الدول والشعوب والأمم.
لقد كان أول شيء فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة أن أسس المسجد، ليكون المكان الذي تدار منه الدولة الناشئة، فضلا عن كونه مكان صلاة المؤمنين. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة وثيقة المدينة التي تشكل بحق أول دستور مكتوب للدولة، فالهجرة كانت بحق حدثًا مفصليا في تاريخ الأمة أسس لها دولة كانت النواة لأعظم دولة في التاريخ.
ولعل النص الأول في وثيقة المدينة يوضح بما لا يدع مجالا للشك بأنها تؤسس لدولة قوامها المهاجرون والأنصار ومن تبعهم فلحق بهم، إذ هم وحدهم أمة واحدة من دون الناس، فالبند الأول يقول: (هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس). ثم يبين أحد أهم نصوص الوثيقة أن المرجع الوحيد بل والسيادة المطلقة في هذه الدولة هي لشرع الله سبحانه وتعالى، إذ تنص على: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره). لقد شكلت هذه الوثيقة الأساس المتين الذي تقوم عليه الدولة الناشئة، فكانت بحق أعظم دستور لأعظم دولة.
لقد كانت الهجرة إيذانا ببدء مرحلة جديدة، الإسلام فيها ممكّن له في دولة قوية ذات شوكة، دولة تطبق الإسلام في الداخل وتحمله إلى الخارج بالدعوة والجهاد، وبها انتهت مرحلة كان المسلمون فيها مستضعفين، يستخفون بدينهم، يقهرون ويعذبون ويفتنون عن دينهم، ويحاصرون في شعب أبي طالب، وتروج ضدهم وضد دينهم الجديد الدعايات المضللة والأخبار الكاذبة. وبرغم كل ذلك كانت مرحلة مكة بكل صعابها ومعاناتها هي التي بُنيت فيها شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت عقلياتهم عقليات إسلامية ونفسياتهم نفسيات إسلامية، وكانوا بحق أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، وكان الصراع الفكري والكفاح السياسي الذي خاضه الرسول الكريم وصحابته في مكة هو الذي صقل شخصياتهم وجعل منهم رجال دولة بحق قامت على أكتافهم دولة الإسلام الأولى، ولأهمية ذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان ذلك النفر الذين بايعوه بيعة العقبة الأولى، بل أرسل لهم مصعب بن عمير مقرئًا يقرئهم القرآن، ويعلمهم أحكام دينهم الجديد، ويصقلهم بها، وكان يدعو كذلك غير المسلمين للإسلام، ومن ثم يعمل على بناء شخصية من يؤمن بالإسلام بناءً قويا متينا ليجعل منهم شخصيات إسلامية فريدة في التاريخ، ومن هنا ساهم الأنصار مع المهاجرين في بناء الدولة الإسلامية الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكلوا الأرضية الصالحة الخصبة لقيام دولة ما عرف العرب حينها نظيرا لها، ثم ما لبثت أن فاجأت العالم بقطبيه الفرس والروم، فهزت عروشهما هزا عنيفا، وما هي إلا سنوات قليلة وأصبحت تلك الدولة هي الدولة الأولى في العالم.
لم تكن الهجرة بهذا المعنى فعلا عاديا ولا حدثا عابرا، بل كانت حدثا جديرا بأن يؤرخ المسلمون به، وكم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاقب النظر بوضع التقويم الهجري، فقد كتب إليه أبو موسى الأشعري «أنه يأتينا منك كتب (رسائل) ليس لها تاريخ». فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم قال أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة. فلما اتفقوا قال بعضهم ابدأوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه.
لقد فهم كفار قريش دلالة هجرة أتباع الدين الجديد إلى يثرب، فقد كانوا يتابعون كل يوم هجرة رجل أو رجلين أو عائلة بكاملها أو عائلتين، وكانوا يعرفون أن دار هجرتهم هي المدينة فقد ذهب إليها أبو جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك. نعم كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون إلى المدينة في انتظار رسول الله ليؤسسوا معه أمة ودولة الإسلام، ومن هنا كان مكرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه ليمنعوه من الوصول إلى المدينة، قال تعالى ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) [الأنفال:30]. والغريب أن كثيرا من الخطباء وأئمة المساجد في عصرنا هذا يتناولون الهجرة وكأنها قصة مُسَلِّية تخلو من أية عبرة أو دلالة، فلا يدركون ما أدركه المشركون من كونها هجرة من دار الكفر لدار الإسلام لتأسيس دولة عظيمة، فتراهم يسردونها سردا قصصيا خاليًا من أي مضمون أو دلالة.
لولا الهجرة ما كان يمكن أن يكون للمسلمين دولة ولا دستور، فهلا أدرك المسلمون ذلك وشمروا عن ساعد الجد ليؤسسوا للمسلمين دولة حقيقية تطبق شرع الله عليهم وتحمله للعالم، ويجعلوا من المرحلة المكية التي سبقت قيام الدولة نبراسا في سعيهم هذا. ولتكن ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم باعثا للأمل في نفوسنا من جديد نحو خلافة ثانية على منهاج النبوة؛ فكما سار النبي نسير دون أن نحيد قيد شعرة، وكما صبر هو وصحابته نصبر، وكما ضحى هو وصحابته الكرام نضحي، ونبذل الغالي والنفيس في سبيل قضية أدركنا كونها مصيرية وهي قضية تحكيم شرع الله في دولة الخلافة الإسلامية.
((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام:153]
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
شريف زايد
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر