المصلحة وذم الهوى
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ من أعظمِ البلايا التي ابتُليَ بها المسلمونَ في هذا الزمانِ هيَ تغيّرُ المفاهيمِ الإسلاميةِ، واستبدالُها بمفاهيمَ غربيةٍ غريبةٍ عنِ الإسلامِ، وإنَّ من أخطرِ تلكَ المفاهيمِ على الإطلاقِ مفهومَ المصلحةِ الذي به يُحوّلُ الحرامَ إلى حلالٍ، وبحجةِ المصلحةِ يصبحُ الربا مباحاً، والاشتراكُ معَ الكافرِ لقتالِ المسلمِ عملاً شرعياً، والصلحُ مع يهودِ والاعترافُ بسيادتهمْ على بلادِ المسلمينَ أمراً يوافقُ الإسلامَ وهكذا.
وأصبحَ يروَّجُ لكثيرٍ منَ الأفكارِ الدخيلةِ على الإسلامِ بحجةِ أنها قواعدٌ شرعيةٌ مثلُ قولهم: «لا يُنكَرُ تغيّرُ الأحكامِ بتغيّرِ الزمانِ» و «أينما تكونُ المصلحةُ فثمَّ شرعُ اللهِ» و «العرفُ محكّمٌ» وغيرُها من الأفكارِ الغريبةِ التي أُلبستْ لَبوسَ الإسلامِ وأُدخلتْ على أفهامِ المسلمينَ لصرفهم ْكلياً عن الإسلامِ وأصولِهِ.
ومَعَ أنَّ هذا البحثُ في أساسهِ هوَ بحثٌ فقهيٌّ من الناحيةِ الأصوليةِ، إلا أنَّ أثرَهُ واقعٌ على جميعِ المسلمينَ، بل وتتداولُهُ الألسنةُ في كلِّ يومٍ للاحتجاجِ بهِ على القيامِ بالأعمالِ التي تتنافى مَعَ الشرعِ، ولذلكَ كانَ لزاماً على المسلمينَ أن يدركوا معنى المصلحةِ وواقعِها في الفقهِ الإسلاميِّ وهلْ يجوزُ الأخذُ بها على اعتبارِها مصدراً من مصادرِ التشريعِ؟
وقبلَ الخوضِ في معنى المصلحةِ، لا بدَّ من معرفةِ مصادرِ التشريعِ، ذلكَ أنَّ المصدرَ المعتبرَ شرعاً لا بدَّ أنْ يكونَ ثبتَ بالدليلِ القطعيِّ أنه وحيٌ منَ اللهِ سبحانَهُ. أما المصادرُ الشرعيةُ التي اتفقَ جمهورُ العلماءِ على اعتبارِها، فهيَ الكتابُ، والسنةُ، وإجماعُ الصحابةِ، والقياسُ وهناكَ مصادرٌ اختُلفَ على اعتبارها مصادرَ شرعيةً ومنها: مذهبُ الصحابيِّ، والمصالحُ المرسلَةُ، والإستصحابُ، وسدُّ الذرائعِ، وشرعُ من قبلنا، والعُرفْ. وهذهِ اختلفَ العلماءُ على اعتبارها مصادرَ شرعيةً لكونها لمْ تثبتْ حُجّيتُها بالدليلِ القطعيِّ. فالمصالحُ المرسلةُ إذاً هيَ ممَّا ظُنّ أنَّها دليلٌ وهيَ ليستْ بدليلٍ لعدمِ ثبوتِها بالدليلِ القطعيِّ.
أما الذينَ قالوا بالمصالحِ فقدِ اعتبروا أنَّ للشريعةِ مقاصدٌ، وأنها شُرِعتْ لحفظِ هذهِ المقاصدِ، يقولُ الآمديُّ في كتابِهِ (الإحكامُ في أصولِ الأحكامِ) «فإن كانَ أصلاً -أيْ الحكمْ- فهو الراجعُ إلى مقاصدِ الشريعةِ الخمسةِ التي لم تَخلُ من رعايتِها مِلّةٌ منَ المللِ ولا شريعةُ منَ الشرائعِ وهيَ حفظُ الدينِ، والنفسِ، والعقلِ، والنسلِ، والمالِ». ومعنى ذلكَ أنَّ الشرائعَ شُرعتْ لتحقيقِ تلكَ المقاصدِ الخمسةِ ، وبعضُ العلماءِ كالشيخِ تقيِّ الدينِ النبهانيِّ يضيفُ إليها حفظَ الدولةِ، وحفظَ الأمنِ، والكرامةِ الإنسانيةِ، وهذهِ المقاصدُ قدْ اتفقَ عليها أغلبُ العلماءِ منْ خلالِ استقراءِ الشرائعِ السماويةِ ورسالةِ الإسلامِ، أما الذينَ قالوا بالمصالحِ فقدْ اعتبروا أنَّ مقاصدَ الشريعةِ تنطبقُ على الأحكامِ الجزئيةِ كما تنطبقُ على الشريعةِ كاملةً، أيْ أنَّ كلَّ حكمٍ بعينهِ إنما شُرِعَ لمصلحةٍ معينةٍ، مَعَ أنَّ مقصدَ الشارعِ من إرسالِ الرسالةِ خلافُ مقصدهِ منْ كلِّ حكمٍ بعينِهِ، فاللهُ سبحانَهُ يقولُ «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107) وهذا يعني أنَّ إرسالَ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمْ هوَ الرحمةُ، أي أنَّ الغايةَ منْ إرسالِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمْ هيَ الرحمةُ للناسِ، ويقولُ: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (الإسراء: 82) فهذهِ تدلُّ على أنَّ قصدَ الشارعِ منْ إرسالِ الرسالةِ وتنزيلِ القرآنِ هوَ الرحمةُ والشفاءُ، فهذهِ كلها تدلُّ على أنَّ الغايةَ من إرسالِ الرسالةِ ككلٍّ هيَ الرحمةُ للعبادِ وليستْ الرحمةُ والمصلحةُ هيَ غايةُ كلِّ حكمٍ بعينهِ، فحدُّ القطعِ على السارقِ وجلدُ الزاني ليسَ فيهِ مصلحةٌ دنيويةٌ لمنْ يُقامُ عليهِ الحدُّ، بلْ ليسَ فيهِ حتى رحمةٌ لهُ لأنَّ اللهَ سبحانهُ يقولُ: «وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (النور: 2) فأين المصلحةُ أو الرحمةُ في هذا الحكمِ لمن أقيمَ عليه الحدّ؟
هذا منْ حيثُ مقاصدُ الشريعةِ، أما عنِ المصالحِ المرسلةِ أو الإستصلاحِ فهيَ كما عرّفَها الفقهاءُ: «المصالحُ التي لمْ يشهدْ لها الشرعُ بالإعتبارِ ولا بالإلغاءِ وهيَ الأفعالُ التي يقصدُ بها جلبُ مصلحةٍ أوْ دفعُ مفسدةٍ وليسَ لها دليلٌ منَ الشرعِ» وقد عُرّفتْ المصالحُ المرسلةُ بأنَّها المصالحُ التي أرسِلتْ منَ الدليلِ الخاصِّ، أيْ تلكَ التي لا يوجدُ لها دليلٌ خاصٌّ منَ الشرعِ وإنما لها دليلٌ عامٌ أوْ دليلٌ كليٌّ وهذا رأيُ الإمامينِ الشاطبيِّ والقَرَافِيِّ، أما أدلةُ القائلينَ بالمصلحةِ فنوردُ بعضاً منها معَ الردِّ عليها لاستيفاءِ البحثِ.
أولاً: الذينَ استدلوا بحُجِّيةِ المصلحةِ قالوا بأنَّ الرسولَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أقرَّ معاذاً حينَ أرسلَهُ إلى اليمنِ بأن يجتهدَ رأيَهُ إذا لمْ يجدِ الحكمَ في كتابِ اللهِ ولا في سنةِ رسولِهِ. فهذا استدلالٌ في غيرِ محلِّهِ. وليسَ في الحديثِ ذكرٌ للمصلحةِ، وإنما يُتَّخذُ الحديثُ حجةً على جوازِ الاجتهادِ، وليسَ في الحديثِ أن الرسولَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أقرَّ معاذاً على الاجتهادِ بناءً على المصلحةِ ، لا منطوقاً ولا مفهوماً ، وإنما فيهِ إقرارٌ لمعاذٍ أنْ يجتهدَ رأيَهُ ليحكمَ بما يؤديهِ إليهِ هذا الاجتهادُ إذا لمْ يجدِ الحكمَ في الكتابِ ولا في السنةِ، ولمْ يقلْ معاذٌ أنهُ يحكمُ برأيهِ ، وإنما قالَ: أجتهدُ رأيي. وهذا معناهُ أنه إذا لمْ يجدْ الحكمَ صريحاً لا في الكتابِ ولا في السنةِ فسيبذلُ جهدَهُ لاستنباطهِ.
ثانياً: قولهمْ أنَّ الواقعَ يتغيرُ ويتطورُ باستمرارٍ والنصوصُ محدودةٌ، ولذلكَ يجبُ استحداثُ مصادرَ للتشريعِ، لهذا يلزمُ الأخذُ بالمصالحِ المرسلةِ.
فمدلولُ هذا الكلامِ أنَّ الشريعةَ ناقصةٌ ويجبُ أنْ نُضيفَ إليها مصادرَ من عندنا كيْ تكتملَ، وهذا مخالفٌ لنصِّ القرآنِ: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (المائدة: 3) .ألا ترى أنَّ نصاً واحداً كالقاعدةِ الشرعيةِ المأخوذةِ من نصوصِ القرآنِ وهي: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ ما لمْ يردْ دليلُ التحريمِ) يُعطي حكماً لكلِّ الأشياءِ في الدنيا مهما كثُرتْ.
إنَّ الوقائعَ كلها منذُ اكتملَ نزولُ التشريعِ إلى يومِ القيامةِ لها أحكامُها في الشريعةِ بنصوصِها المحدودةِ. يقولُ سبحانهُ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام: 38). والأدلةُ ليستْ القرآنُ والسنةُ فحسبُ ، وإنما هيَ القرآنُ والسنةُ وإجماعُ الصحابةِ والقياسُ، وهذهِ مكتملةٌ بذاتها بدونِ أيَّةِ إضافةٍ بشريةٍ؛ وأيُّ إضافةٍ إلى الأدلةِ بحجةِ عدمِ كفايةِ الأدلةِ للمستجداتِ، إنما هوَ اتهامٌ بنقصٍ للشريعةِ وهذا يخالفُ القرآنَ.
ثالثاً: قولهمْ أنَّ الصحابةَ رضوانُ اللهِ عليهمْ قدْ أخذوا بالمصالحِ المرسلةِ في بعضِ الحوادثِ مثلَ جمعِ الصحفِ المتفرقةِ في مصحفٍ واحدٍ، واتفاقهُمْ على نسخِ المصحفِ، وإنشاءِ عمرَ للدواوينِ.
وهذهِ الأعمالُ ليسَ فيها ما يدلُّ على أنَّ المصلحةَ كانتْ دليلاً على جوازها. فأمْرُ أبي بكرٍ بجمعِ القرآنِ وأمْرُ عثمانَ بنسخِ المصحفِ، وإحراقِ سائرِ المصاحفِ، تدلُّ حادثتُهُ على أنَّه إزالةٌ لضررٍ عظيمٍ. فإنهُ لما كَثُرَ القتلُ في حفَّاظِ القرآنِ، وخِيفَ على القرآنِ منَ الضياعِ وخِيفَ أن يحصلَ اختلافٌ في القرآنِ بينَ المسلمينَ، قالَ حذيفةُ بن اليمانِ لعثمانَ: أدركِ المسلمينَ قبلَ أنْ يختلفوا. فأمرَ بنسخِ المصحفِ في نسخةٍ واحدةٍ وأحرَقَ ما سواها، فهذا كلُّه ضررٌ أزالهُ خليفةُ المسلمينَ، وهذا ليسَ مصلحةً عمِلَ بها منْ عندِهِ، وإنما لأنَّ الرسولَ أمرَ بإزالةِ الضررِ، فعن ابن عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلىَّ اللهُ عليهِ وسلمَ: «لا ضررَ ولا ضرارْ» فما فعلهُ أبو بكرٍ وعثمانَ هوَ إزالةُ ضررٍ، وفعلَهُ كلٌّ منهُما استناداً إلى السنةِ وليسَ لمجردِ أنهُ رأى أنَّ ذلكَ مصلحةً.
كذلكَ إنشاءُ عمرَ الدواوينَ لمْ يكنْ دليلُهُ المصلحةَ. وأنما الدليلُ هوَ الشرعُ، وهوَ أنهُ لما توسعتِ الدولةُ الإسلاميةُ وكثرَ المسلمونَ في عهدِ عمرَ-وهوَ خليفةُ المسلمينَ ومسؤولٌ عنْ رعايتهمْ- صارتْ أحوالهُمْ وشؤونهمْ بحاجةٍ إلى ضبطٍ وحفظٍ وتسجيلٍ، وذلكَ منْ أجلِ القيامِ برعايةِ شؤونهمْ حسبَ أحكامِ الشرعِ، ولذلكَ استحدثَ عمرُ هذهِ الوسائلَ والأساليبَ، للقيامِ بالواجبِ وهوَ تطبيقُ الإسلامِ، فإذا تعذّرَ تطبيقُ الإسلامِ ورعايةُ شؤونِ المسلمينَ إلا بهذهِ الأساليبِ والوسائلِ أو ما هوَ مثلَها، فإنهُ يصبحُ اتخاذها أوْ اتخاذُ ما هوَ مثلَها واجباً للقاعدةِ الشرعيةِ: «ما لا يتمُّ الواجبُ إلا بهِ فهوَ واجبٌ». فيكونُ دليلُ الفعلِ هوَ الشرعُ، هذا منْ جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الشرعَ دلَّ على إباحةِ هذهِ الأشياءِ التي استحدثها عمرُ، فالأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ ما لمْ يردْ دليلُ التحريمِ. وهذهِ كلُّها لها أدلتُها الشرعيةُ وليستْ مبنيةً على المصلحةِ. وهكذا بقيةُ الأدلةِ التي ظنَّ القائلونَ بها أنها منْ بابِ المصلحةِ إنما لها أدلتُها منَ الشرعِ وليسَ فيها أيُّ دليلٍ على المصلحةِ.
أما قولُ الفقهاءِ في المصلحةِ فقدْ ردّها جمهورُ العلماءِ ومنهمُ الشافعيُّ والآمديُّ والغزاليُّ والعزُّ بن عبدِ السلامِ فقدْ وردَ عنِ الشافعيِّ قولُهُ في المصلحةِ «منِ استحسنَ فقد شرّعْ» وقوله «إنما الإستحسانُ تلذذٌ» كما ردّها الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ وابن تيميةَ وابن قدامةَ المقدسيُّ، وأما الحنفيةُ فقدِ اشْتُهِرَ عنهمْ أنهمْ لا يأخذونَ بالمصلحةِ ولاهيَ معتبرةٌ عندهمْ، أما ما يُنْسَبُ إلى مالكٍ بأنهُ أخذَ بالمصلحةِ فقدْ أنكرَ جماعةٌ منَ المالكيةِ ما نُسِبَ إليهِ من القولِ بها ومنهمْ القرطبيُّ، وذهبَ الشافعيُّ ومعظمُ أصحابِ أبي حنيفةَ إلى أنها ليستْ معتبرةَّ في مذهبِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ.
وعلى ذلكَ يتبينُ أنَّ الإستدلالَ بالمصلحةِ لا يجوزُ شرعاً ولا بأيِّ حالٍ، ذلكَ أنها ليستْ دليلاً ولا تصلحُ أنْ تكونَ دليلاً بإجماعِ جمهورِ العلماءِ على ذلكَ، أما الذينَ قالوا بالمصلحةِ فيما يتعارضُ معَ النصِّ الشرعيِّ فذلكَ ما لمْ يقلْ بهِ أحدٌ منَ المتقدمينَ ولا منَ المتأخرينَ، بلْ هوَ مجردُ اتباعٍ للهوى واجتراءٍ على اللهِ، وتقوّلٌ على الشرعِ بما ليسَ فيهِ، فالقولُ مثلاً بجوازِ شراءِ البيوتِ عن طريقِ البنوكِ الربويةِ من بابِ المصلحةِ أو أنهُ يجوزُ شراءُ العقارِ التجاريِ بالربا حتى يتقوّىَّ المسلمُ ويصبحُ غنياً لأنَّ المؤمنَ القويَّ أحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ فذلكَ مجردُ افتراءٍ على اللهِ وعلى شرعهِ، ذلكَ أنَّ الحرمةَ في تلكَ المسائلِ ظاهرةٌ كالشمسِ في رابعةِ النهارِ.
وغيرُ ذلكَ الكثيرُ من الأحكامِ الشرعيةِ التي تحولتْ وتحرّفتْ تحتَ مسمّى المصلحةِ، حتى صارتِ المصلحةُ هيَ الأساسُ في استصدارِ الأحكامِ الشرعيةِ قبلَ النظرِ في مصادرِ التشريعِ الأساسيةِ، لدرجةِ أنْ وصلَ الأمرُ ببعضِ دُعاةِ المصلحةِ أنْ يقولَ «إئتني بالمصلحةِ آتيكَ بالدليلِ عليها» وكأنَّ الأصلَ في الحكمِ الشرعيِّ أنْ يوافقَ مصالحَ الناسِ وأهواءهمْ لا أنْ يلتزموا همْ بشرعِ اللهِ سبحانَهُ، واللهُ تعالى يقولُ «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر: 7) ويقولُ أيضاً «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (الأحزاب: 36) أيْ أنَّ المؤمنَ مكلفٌ باتباعِ أحكامِ اللهِ سواءً وافقتْ هواهُ ومصلحتَهَ أمْ خالفتها، فحكمُ اللهِ جاءَ لنلتزمَ بهِ لا أنْ نطوّعهُ حسبَ مصالحِنا وأهوائِنا، ثمَّ منْ ذا الذي لديهِ القدرةُ على الحكمِ بأنَّ هذا مصلحةٌ لنا أو مضرةٌ، فما يراهُ الإنسانُ اليومَ مصلحةً، يراهُ غداً مضرّةً، وما يراهُ شخصٌ ما مصلحةً يراهُ غيرهُ مضرّةً، فالإنسانُ أعجزُ منْ أن يقدّرَ مصلحتهُ في أيِّ مسألةٍ، ذلكَ أنهُ بطبيعتِهِ البشريةِ عاجزٌ وقاصرٌ عن الإحاطةِ بما حولهُ، فبالأمسِ القريبِ كانَ البعضُ يرى أنَّ شراءَ البيوتِ عن طريقِ الربا للإستثمارِ أو التملكِ فيهِ مصلحةٌ، أما اليومَ وبعدَ الأزمةِ الماليةِ أصبحَ يُنظرُ لمنْ قامَ بهذا العملِ أنهُ تخبّطَ وأخطأ خطأً فادحاً، ومنْ كانَ يقولُ بأنَّ التجارةَ بالأسهمِ منفعةً ومصلحةً، أصبحَ هوَ نفسهُ اليومَ يقولُ أنَّ ذاكَ العملَ مجردُ طيشٍ وعدمُ وعيٍ، فأينَ المصلحةُ إذاً؟! أهيَ بالإستثمارِ بالأسهمِ؟! أمْ بالشراءِ بالربا؟! أمْ في غيرِ ذلكَ؟! فهلْ يستطيعُ أحدٌ منَ البشرِ أنْ يعطيَ حكماً صواباً لجميعِ الناسِ؟ والجوابُ على ذلكَ بالقطعِ «لا» ولنْ يستطيعَ أحدٌ منَ البشرِ أنْ يقررَ المصلحةَ في أيِّ حكمٍ، لأنهُ حتى يُعطي حكماً صواباً لجميعِ الناسِ في جميعِ الأزمانِ لا بدَّ منْ إدراكِ حاجاتِ جميعِ الناسِ وثقافاتهمْ والبيئةِ المحيطةِ بهمْ والمتغيراتِ الإقتصاديةِ والإجتماعيةِ والسياسيةِ لكلِّ الناسِ وعلى مدى العصورِ، وذلكَ مما يستحيلُ على بشرٍ ولا يتأتى إلا لخالقِ البشرِ، قالَ تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة50).
وخيرُ دليلٍ على ذلكَ قصةُ موسى عليهِ السلام معَ الرجلِ الصالحِ، فموسى عليهِ السلامُ كانَ يرى أنَّ خرقَ السفينةِ شيئاً إمرا، وقتلَ الغلامِ ظلماً عظيماً، وبناءَ الجدارِ لقريةٍ بخيلةٍ دونَ أخذِ الأجرِ أمراً خطأً معَ أنَّ تلكَ الأعمالَ في حقيقتِها كانتْ عينَ الصوابِ لأنها كانتْ وحياً منَ اللهِ للخضرِ عليهِ السلام، وإن بَدَتْ في ظاهرها أنها ظلمٌ عظيمٌ، فإنْ كانَ موسى عليهِ السلام وهوَ النبيُّ المرسلُ لمْ يستطعْ أنْ يعرفَ الخطأَ منَ الصوابِ أوْ العدلَ منَ الظلمِ منْ غيرِ وحيٍ، فكيفَ إذاً بباقي البشرِ؟!
مما سبقَ نتبينُ أنَّ إتباعَ المصلحةِ فيما يعارضُ النصَّ ما هوَ إلا إتباعٌ للهوى وقدْ ذمَّ الحقُّ سبحانَهُ وتعالى اتباعَ الهوى بلْ واعتبرَهُ إلهاً، ذلكَ أنَّ منْ يتبعْ هواهُ ومصلحتَهُ فقدْ جعلهُما مشرِّعاً لهُ منْ دونِ اللهِ، قالَ تعالى «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» (الجاثية: 23)، وقال «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» (الفرقان: 43)، وروى أنسٌ بن مالكٍ عنْ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَّ أنهُ قالَ: «ثلاثٌ مهلكاتٌ: هوى متبعْ، وشُحٌ مطاعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسهِ» (صحيحُ الجامعِ).
بقيَ أنْ نقولَ أنَّ الإنسانَ بطبعهِ يسعى لتحقيقِ مصلحتِهِ ومنافعِهِ الإنسانيةِ وذلكَ أمرٌ غريزيٌ قدْ فُطِرَ الإنسانُ عليهِ، ولكنَّ العاقلَ منْ يعرفُ مصلحتَهُ الحقيقيةَ، وهيَ أنْ يصلَ إلى النعيمِ المقيمِ، إلى جنةٍ عرضها السماواتُ والأرضُ، نعيمٌ لو غمسَ فيهِ غمسةً نسيَ شقاءَ حياتِهِ كلها قالَ عليهِ السلامُ «يؤتى يومَ القيامةِ بأنعمِ أهلِ الدنيا منَ الكفارِ، فيقالُ اغمسوهُ في النارِ غمسةً، فيُغْمَسُ فيها ثمَّ يقالُ لهُ: أيْ فلانْ هلْ أصابكَ نعيمٌ قطْ؟ فيقولُ لا ما أصابني نعيمٌ قطْ، ويؤتى بأشدِّ المؤمنينَ ضُرا وبلاءً، فيقالُ: اغمسوهُ غمسةً في الجنةِ، فيغمسُ فيها غمسةً فيقالُ لهُ: أيْ فلانْ هلْ أصابكَ ضَرُّ قطْ أو بلاءٌ؟ فيقولُ ما أصابني قطٌ ضرٌّ ولا بلاءٌ» (صحيحُ ابن ماجةَ). تلكَ هيَ المصلحةُ التي تُرتجى، وليسَ نعيماً زائلاً مؤقتاً مليئاً بكدرِ العيشِ.
فهل ْكانَ بلالٌ رضيَ اللهُ عنهُ لا يعرفُ مصلحتَهُ عندما قاسى أشدَّ العذابِ في سبيلِ الجنةِ؟! أمْ كانَ صهيبٌ الروميُّ رضيَ اللهُ عنهُ مغفلاً عندما دفعَ كلَّ مالهِ إلى قريشٍ للسماحِ لهُ بالهجرةِ إلى رسولِ اللهِ؟! فهلْ فازَ هؤلاءِ وربحوا أمْ لمْ يكونوا يعرفوا مصلحتهمْ؟!
كتبهُ للاذاعةِ الاستاذُ أبو زيدٍ