العلماء في ظل الخلافة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الدولة الإسلامية ليست ضرباً من الأوهام ولا بدعاً من الزمن، بل هي حقيقة واقعة امتلأت بها جوانب التاريخ لما يزيد عن ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وستكون كذلك في القريب العاجل بإذن الله. والدولة الإسلامية ليست خيالاً يداعب الأحلام بل كانت الدولة الأولى في العالم لقرون طويلة، حملت خلالها العدل والرحمة والخير للبشرية، فلا احتلال ولا قتل ولا إرهاب ولا قرصنة، بل فتحٌ يجعل الناس أمة واحدة تعيش باطمئنان. وتمتلك الدولة الإسلامية القدرة على إيجاد الكثير من العلماء المحاسبين للدولة والحاكم، فهؤلاء العلماء صمام أمان لبقاء سير الدولة والحكم حسب الإسلام.
والعلماء من نعم الله تعالى على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، بهم تُمحق الضلالة وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيظ الشيطان وركيزة الايمان وقوام الأمة، مَثُلُهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، قال رسول اللهصلى الله عليه و سلم: «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِذَا انْطَمَسَتْ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ» مسند أحمد. والعلماء هم ورثة الأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» رواه ابو داوود والترمذي. والعلماء لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يهابون سلطاناً جائراً، ولا حاكماً ظالماً متجبراً، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنةِ رسولِ اللهِ يَعمَلُ في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقا على الله ان يدخله مدخله» رواه الطبري في التاريخ وابن الأثير في الكامل. وهم كذلك لا يسكتون عن تبيان الحق وتعليمه للناس، ولا يكتمون حكماً شرعياً في قضية أو مشكلة سواء تعلقت بشؤون الأفراد والأمة، أو بعلاقات الدولة أو بتصرفات الحاكم. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» (البقرة 159). والعلماء هم أكثر الناس خشية لله كيف لا وهم العالمون بأحكام الشريعة المحيطون بها، قال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر 28). وهم أول القائمين والمبادرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (آل عمران 104). وقد جعل الإسلام منزلة الآمر بالمعروف والمحاسب للحاكم كمنزلة سيد الشهداء، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «سَـيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَه» رواه الحاكم.
وقد ضرب علماء السلف الصالح أروع الأمثلة في محاسبة الحاكم وأمره ونهيه دون خوف أو وَجَل، بل كان همّهم رضوان الله وسعادة أنفسهم وغيرهم من المسلمين. ويجب ألا يغيب عن الذهن أن أولئك العلماء قد حاسبوا ونصحوا حكاماً طبقوا الإسلام ودافعوا عن المسلمين، ولكن بعضهم أخطأ أو أغراه مال أو حكم، ولكن نظام الإسلام كان مطبقاً في الداخل وفي علاقات الدولة الخارجية. ومما لا شك فيه أن حكام اليوم بعيدون كل البعد عن التشبه بالحكام السابقين فليحذر الذين يوالون حكام اليوم ويعتبرونهم أولي أمر يُطاعون. ولقد عجَّت جنبات التاريخ بالقصص الكثيرة بين العلماء والحكام، وسنذكر بعضاً منها على أربعة أوجه : الأول نصح العلماء للحكام، والثاني مواجهة العلماء للحكام، والثالث موقف العلماء من مِنَح الحكام وأعطياتهم، والرابع محنة العلماء من قبل الحكام .
الوجه الأول: نصح العلماء للحكام. وفي هذا الباب نصائح كثيرة عَقِلها الحكام وعملوا بموجبها، منها أن الإمام جعفر الصادق قد نصح أبا جعفر المنصور حين استدعاه يوماً، قائلا: «ونحن لك أنصار وأعوان، لملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والإحسان، وأمضيت في الرعية أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك الله أنف الشيطان، وإن كان يجب عليك في سعة وكثرة علمك ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك». وقد نصح الإمام الأوزاعي أبا جعفر المنصور قائلا: «يا أمير المؤمنين، قد كنت في شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم، وكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام، وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بَليّة أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه». وقد نصح القاضي أبو يوسف هارون الرشيد في مقدمة كتاب الخراج قائلا: «فاحذر أن تضيع رعيتك فيستوفي ربها حقها منك، ويضيعك بما أضعت أجرك، وانما يُدعم البنيان قبل أن ينهدم، وانما لك من عملك ما عملت فيمن ولّاك الله أمره، فلست تنسى. ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم فليس يغفل عنك».
الوجه الثاني: مواجهة العلماء للحكام. روي أن عبد الملك بن مروان لمّا حج وقدم المدينة، وقف على باب المسجد المبارك، ثم أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه. فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين إليّ حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته إليّ لغير مقضية، فرجع الرسول وأخبر عبد الملك بذلك. فقال ارجع إليه انما أريد أن أكلمه ولا تحركه، فرجع إليه وأعاد الكلام، فقال له سعيد ما قال أولاً، فقال له الرسول: لولا ما تقدم اليّ فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك وتقول مثل هذه المقالة، فقال له سعيد: ان كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو بك، وان كان غير ذلك فلا أحلّ موتي حتى يقضي ما هو قاضٍ. وهذا الليث بن سعد عالم مصر يدخل على الرشيد، فيسأله الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا اجراء النيل وصلاح أمره، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين، قال الرشيد: صدقت يا أبا الحارث. وقد روي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة، فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين. فأتي بالعالم الجليل طاوس اليماني فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلّم عليه بإمرة المؤمنين ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يُكنِّه وجلس بإزائه، وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى هَمَّ بقتله، فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يجوز ذلك. فقال هشام: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد هشام غضباً وغيظاً، وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي، ولم تسلم بإمرة المؤمنين ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت كيف أنت يا هشام. فقال طاوس: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي، وأما قولك لم تقبل يدي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «لا يحل لرجل أن يُقبِّل يد أحد إلاّ امرأته من شهوة أو ولده من رحمة». وأما قولك لم تسلم بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب. وأما قولك لم تكنّني فإن الله سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا داوود، يا يحيى، يا عيسى، وكنّى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب، وأما قولك جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: «إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام». وينهي حديثه بموعظة بناء على طلب هشام بن عبد الملك، فيقول: سمعت من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنّ في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. فأين علماء الأمس من علماء اليوم الذين يسبحون بحمد الحكام ولا يجرؤون على محاسبتهم رغم انتشار الكفر البواح في كل مكان؟!
الوجه الثالث: مِنَح الحكام وأعطياتهم للعلماء. فقد كان أبو حنيفة وسفيان الثوري والفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل والطبري وسعيد بن المسيب وأضرابهم يرفضون أعطيات الحكام وهداياهم. فقد أرسل أبو جعفر المنصور إلى أبي حنيفة جائزة (أعطية) قدرها عشرة آلاف درهم وجارية، وكان عبد الملك بن حميد وزير أبي جعفر فيه كرم وجودة في الرأي، فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: أنشدك الله، إن أمير المؤمنين يطلب عليك علة، فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك، فأبى عليه، فقال الوزير: أما المال فقد أثبته في الجوائز وأما الجارية فاقبلها أنت مني أو قل عذرك حتى أعذرك عند أمير المؤمنين. فقال أبو حنيفة: اني ضعفت عن النساء وكبرت، فلا استحل أن أقبل جارية لا أصل اليها ولا أجرؤ أن أبيع جارية خرجت من ملك أمير المؤمنين.
الوجه الرابع: محنة العلماء من الحكام. فالحكام الظلمة في كل زمان ومكان يضطهدون الذين يخالفونهم في أفكارهم وسلوكهم، ولا يسايرونهم في شهواتهم وأهوائهم. وقد نال علماء السلف الصالح أذى ومحناً لالتزامهم بالحق. فهذا مثلا سعيد بن المسيب يناله الضرب والسجن لرفضه البيعة للوليد في حياة أبيه عبد الملك. وهذا فاسق بني ثقيف، الحجاج، يقتل سعيد بن جبير ويذبحه من الوريد إلى الوريد بعد محاكمة طويلة كان الظفر فيها لسعيد بن جبير، ولكن هيهات للظالم أن يتعظ . فيلقى سعيد ربه شهيداً، ويموت الحجاج بمرض غريب بعد دعاء سعيد عليه. وهذا أبو حنيفة النعمان يُضرب ويُسجن من قبل أبي جعفر المنصور ولكنه لا يغير ولا يبدل من إظهار ظلم الحاكم. وهذا أحمد بن حنبل يُضرب ويُعذب في مسألة خَلق القرآن ويصرُّ على رأيه -وهو الحق-. وهذا مالك بن أنس يُعذب من أجل تعليم الناس حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم (ليس على مستكره طلاق). وهذا العز بن عبد السلام يتعرض للقتل بسبب أمره ببيع أمراء مصر من المماليك فما فتَّ ذلك في عضضه شيئا. وكان من قبل ذلك قد سُجن ونُفي من دمشق لأنه بيّن حرمة الاستعانة بالصليبيين، فأين علماء اليوم في فتاويهم المحلٍّلة للاستعانة بالكفار والمجيزة لها؟! وأين أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؟ آلله أحق أن يُخشى أم هؤلاء الحكام؟
إنَّ أزمة الأمة اليوم في جزء منها سببه العلماء. فقسم قد اشتراه الحكام وأصبحوا علماء سلاطين يدافعون عن الحاكم ويؤوِّلون كل فعل حرام ولو كان كالشمس في وضوحه، وذلك مثل الاستعانة بالكفار وجواز حصار المسلمين وعدم الحكم بالإسلام. ومنهم من أيّد الاشتراكية في السابق تزلفاً للحكام والتماساً لرضاهم، ومنهم من يدعو الآن إلى الديمقراطية تماشياً مع رغبات بعض الحكام، مع أن الاشتراكية والديمقراطية أنظمة كفر وفساد تخالف الإسلام أيَّما مخالفة. ومنهم من اكتفى بالقيام بالعبادات دون اكتراث بفساد الحاكم جُبناً وخوفاً ودون اهتمام بأمور المسلمين. يقول حجة الإسلام الغزالي في أقسام العلماء: «العلماء ثلاثة إما مُهلك نفسه وغيره وهم المصرِّحون بطلب الدنيا المقبلون عليها، وإما مُسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً، وإما مُهلك نفسه مُسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصْده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه» الاحياء ج3.
إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى أمثال أولئك العلماء ليعيدوا الأمة إلى سابق عهدها من السير حسب الإسلام حكاماً ومحكومين، وما ذلك على الله بعزيز، فالأرحام التي أنجبت سعيد بن المسيب وأبا حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام قد أنجبت الشيخ تقي الدين النبهاني وسيد قطب والشيخ أحمد الداعور والشيخ عبد العزيز البدري، وهي قادرة إلى قيام الساعة على إنجاب أمثال أولئك، كيف لا وهم ورثة الأنبياء؟!
كتبه للاذاعة أبو هيثم