"القرآن دستورنا" بين الحقيقة والخداع
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد سقوط عدد من زعماء وقادة دول الربيع العربي، ووصول الإسلاميين بضغط من إرادة جماهير المسلمين للحكم، ظنا منهم أن من أوصلوهم سيطبقون الإسلام، كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الدستور، مع تتابع الأخبار والحملات والدعايات المؤيدة والمعارضة لتلك اللجنة، أو لتلك المادة، أو لذاك الدستور، في مسرحيات هزلية يتم بها اللعب بعقول ومشاعر المسلمين لكونها دساتير باطلة شرعا، كما حدث في تونس ومصر، أو المواجهات والصراعات الساخنة حول الشريعة أولا أم الدستور، في تطور واضح لمحاولة فرض تطبيق الشريعة كما في ليبيا.
وفي كلتا الحالتين كان واضحا ما اتسمت به الحالة من غياب الطرح الواضح الشامل المتكامل التفصيلي عند جمهور الأمة لما يمكن تسميته الدستور الإسلامي.
ومن هنا برزت أهمية طرح المعنى الحقيقي لـ"القرآن دستورنا"، أو مصطلح الشريعة المصدر الوحيد للدستور.
في هذا المقال نلقي الضوء على مصطلح الدستور والقانون من حيث تعريفه، مبينين الفرق بين الدستور الوضعي والدستور الإسلامي من حيث المنشأ، والمصدر، مع بيان الكيفية التي يتم بها سن التشريعات في الدساتير الوضعية، والفرق بينها وبين طريقة سن التشريعات في الدستور الإسلامي، آملين من خلال هذا المقال أن يعي المسلمون على دينهم، وعلى الطريقة التي سارت بها الدولة الإسلامية على مدى 1400 عام في تبني الأحكام اللازمة لتسيير شؤون الدولة، والتي كانت كلها أحكام إسلامية مصدرها القرآن والسنة فقط لا غير.
تعريف الدستور والقانون:
كلمة القانون اصطلاح أجنبي، ومعناه عندهم الأمر الذي يصدره السلطان ليسير عليه الناس، وقد عرف القانون بأنه (مجموع القواعد التي يجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم)، وقد أطلق على القانون الأساسي لكل حكومة كلمة الدستور، وأطلق على القانون الناتج من النظام الذي نص عليه الدستور كلمة القانون. وقد عرف الدستور بأنه (القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبين حدود واختصاص كل سلطة فيها) أو (القانون الذي ينظم السلطة العامة أي الحكومة ويحدد علاقاتها مع الأفراد ويبين حقوقها وواجباتها قبلهم وحقوقهم وواجباتهم قبلها).
خلاصة الاصطلاح الذي تعنيه كلمتا دستور وقانون، يعني أن الدولة تأخذ من مصادر متعددة، سواء أكانت مصدرا تشريعياً أم مصدراً تاريخياً، أحكاماً معينة، تتبناها وتأمر بالعمل بها، فتصبح هذه الأحكام بعد تبنيها من قبل الدولة دستوراً، إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً، إن كانت من الأحكام الخاصة.
كيف تنشا الدساتير الوضعية؟
الدساتير مختلفة المنشأ:
1- منها ما صدر بصورة قانون.
2- ومنها ما نشأ بالعادة والتقاليد كالدستور الإنجليزي.
3- ومنها ما تولى وضعه لجنة من جمعية وطنية كان لها السلطان في الأمة وقتئذ، فسنت الدستور وبينت
كيفية تنقيحه ثم انحلت هذه الهيئة وقام مقامها السلطات التي أنشأها الدستور كما حدث في فرنسا وأمريكا.
ما هي مصادر الدستور والقانون؟ وما الفرق بين الدستور والقوانين الإسلامية وغيرها من الدساتير والقوانين؟
وللدستور والقانون مصادر أخذ منها:
أولا: مصادر وضعية: إن الدساتير والقوانين الموجودة في وقتنا الحاضر، مصدرها العادات وأحكام المحاكم ..الخ. ومنشؤها جمعية تأسيسية تسن الدستور، ومجالس منتخبة من الشعب تسن القوانين، لأن الشعب عندهم مصدر السلطات، والسيادة للشعب. وتنقسم إلى قسمين:
الأول: المصدر التشريعي: ويقصد به المنبع الذي نبع منه الدستور والقانون مباشرة، كالعادات، والدين، وآراء الفقهاء، وأحكام المحاكم، وقواعد العدل والإنصاف، مثل دساتير بعض الدول الغربية كإنجلترا وأمريكا مثلاً.
والثاني: المصدر التاريخي: يقصد به المأخذ المشتق منه، أو الذي نقل عنه الدستور أو القانون، مثل دستور فرنسا، ودساتير بعض الدويلات القائمة في العالم الإسلامي، كتركيا، ومصر، والعراق، وسوريا مثلاً.
ثانيا: مصدر الدستور الإسلامي الكتاب والسنة ليس غير (السيادة للشرع).
أما الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية فإن مصدرها الكتاب والسنة ليس غير، ومنشؤها اجتهاد المجتهدين يتبنى الخليفة منه أحكاماً معينة يأمر بها فليزم الناس العمل بها لأن السيادة للشرع.
والاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية حق لجميع المسلمين، وفرض كفاية عليهم، وللخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية.
والسؤال الذي يفرض نفسه على كل عامل لتغيير الواقع المهين التي تعيشه الأمة الإسلامية هو إن كانت الدساتير في العالم مختلفة المنشأ والمصدر، والأمة في العالم الإسلامي تتطلع لأن يكون لها دستورها الإسلامي فهل يجب أن يكون لنا الآن دستورٌ إسلاميّ؟ وهل كان للدولة الإسلامية في مختلف عصورها دستور مقنن على شاكلة الدساتير في الوقت الحالي؟ وهل من مصلحة المسلمين وضع دستور شامل وقوانين عامة لهم أم لا؟
للجواب على ذلك نبين التالي:
إن الذي عليه المسلمون منذ أيام أبي بكر حتى آخر خليفة مسلم، هو ضرورة تبني أحكام معينة يؤمر المسلمون بالعمل بها. لكن هذا التبني كان لأحكام خاصة، ولم يكن تبنياً عاماً لجميع الأحكام التي تحكم بها الدولة، ولم تتبن الدولة تبنياً عاماً إلا في بعض العصور، فقد تبنى الأيوبيون مذهب الشافعي، وتبنت الدولة العثمانية مذهب الحنفية.
أما من حيث هل من مصلحة المسلمين وضع دستور شامل وقوانين عامة لهم أم لا؟
أولا: إذا كان الاجتهاد متيسراً، وكان الناس مجتهدين كما هو الحال في العصور الأولى؛ الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فوجود دستور شامل وقوانين عامة لجميع الأحكام لا يساعد على الإبداع والاجتهاد، ولذلك تجنب المسلمون في ذلك العصر، تبني جميع الأحكام من قبل الخليفة، بل كانوا يقتصرون في تبني الأحكام على أحكام معينة لا بد من تبنيها لبقاء وحدة الحكم والتشريع والإدارة، وعلى ذلك فالأفضل لإيجاد الإبداع والاجتهاد أن لا يكون للدولة دستور شامل لجميع الأحكام، بل يكون لها دستور يحوي الأحكام العامة التي تحدد شكل الدولة، وتضمن بقاء وحدتها، ويترك للولاة والقضاة الاجتهاد والاستنباط.
ثانيا: أما إذا كان الناس جميعاً مقلدين، ولا يوجد مجتهدون إلا نادراً، فإن من المحتم على الدولة أن تتبنى الأحكام التي تحكم الناس بها، سواء الخليفة، والولاة، والقضاة، لأنه يتعسر الحكم بما أنزل الله من قبل الولاة والقضاة لعدم اجتهادهم إلا تقليداً مختلفاً ومتناقضاً، علاوة على أن ترك الولاة والقضاة يحكمون بما يعرفون يؤدي إلى اختلاف الأحكام وتناقضها في الدولة الواحدة، بل في البلد الواحد، بل قد يؤدي إلى أن يحكم بغير ما أنزل الله.
ولذلك كان لزاماً على الدولة الإسلامية، والحال من الجهل في الإسلام على ما هي عليه الآن، أن تتبنى أحكاماً معينة، وأن يكون هذا التبني في المعاملات، والعقوبات لا في العقائد والعبادات. وأن يكون هذا التبني عاماً لجميع الأحكام، حتى تضبط شؤون الدولة، وتسير جميع أمور المسلمين وفق أحكام الله.
وفي الختام لا بد من أن يكون واضحا للأمة الإسلامية جمعاء أن للإسلام طريقة لازمة ووحيدة لتبني القوانين في دساتيرها، وأنه على الدولة (أو من يسعى الآن لإقامتها) حين تتبنى الأحكام، وتضع الدستور والقوانين، عليها ملاحظة الأمور التالية:
أولا: يجب أن تتقيد بالأحكام الشرعية فقط، ولا تأخذ غيرها، بل لا تدرس غيرها مطلقاً، فلا تأخذ من غير الأحكام الشرعية أي شيء، بغض النظر عما إذا وافق الإسلام أم خالفه، فلا تأخذ التأميم مثلاً بل تضع حكم الملكية العامة. ولذلك يجب أن تتقيد بالأحكام الشرعية في كل ما يتعلق بالفكرة والطريقة.
ثانيا: أما القوانين والأنظمة التي تتعلق بغير الفكرة والطريقة والتي لا تعبر عن وجهة نظر مثل القوانين الإدارية، وترتيب الدوائر، وما شاكل ذلك، فإنها تعتبر من الوسيلة والأسلوب، وهي كالعلوم والصناعات والفنون تأخذها الدولة وتنظم بها شؤونها، كما فعل عمر بن الخطاب حين دون الدواوين فإنه أخذها من الفارسية، وهذه الأشياء الإدارية والفنية ليست من الدستور، ولا من القوانين الشرعية، فلا توضع في الدستور.
ثالثا: وحين تتبنى أي حكم يجب أن تتبناه على أساس قوة الدليل الشرعي، مع الفهم الصحيح للمشكلة القائمة. ولذلك كان عليها أن تدرس المشكلة، أولاً لتفهمها، لأن فهم المشكلة ضروري جداً، ثم تفهم الحكم الشرعي الذي ينطبق على هذه المشكلة، ثم تدرس دليل الحكم الشرعي، ثم تتبنى هذا الحكم على أساس قوة الدليل، على أن تؤخذ هذه الأحكام الشرعية إما من رأي مجتهد من المجتهدين، بعد الاطلاع على الدليل والاطمئنان إلى قوته، وإما من الكتاب والسنة أو الإجماع أو بالقياس ولكن باجتهاد شرعي، ولو اجتهاداً جزئياً وهو اجتهاد المسألة.
فإذا أرادت أن تتبنى منع التأمين على البضاعة مثلاً، عليها أن تدرس أولاً ما هو التأمين على البضاعة، حتى تعرفه، ثم تدرس وسائل التملك، ثم تطبق حكم الله في الملكية على التأمين وتتبنى الحكم الشرعي في ذلك.
ولهذا كان لا بد أن تكون للدستور، ولكل قانون، مقدمة تبين بوضوح المذهب الذي أخذت منه كل مادة، ودليله الذي اعتمد عليه، أو تبين الدليل الذي استنبطت منه المادة إن كان استنباطها باجتهاد صحيح.
الخاتمة:
ومن هنا يظهر أن الدساتير في العالم الإسلامي منذ ما قبل سقوط دولة الخلافة بقليل وحتى ما بعد ثورات الربيع العربي، هي دساتير وضعية باطلة شرعا من حيث منشؤها، ومصدرها، وما بني عليها أو تفرع منها، وبناء عليه يحرم على المسلم الالتفات لها فضلا عن تأييدها أو الاستفتاء عليها لأن مصدرها البشر، والسيادة عندنا كمسلمين هي لرب البشر.
وإن الحركات والجماعات الإسلامية قد ارتكبت إثما عظيما في الأولى حين رفعت شعار "القرآن دستورنا" وتبين لاحقا أنها لا تملك دستورا إسلاميا بل تبنت دستورا وضعي المنشأ، والمصدر، والأفرع، وأثمت مرة أخرى حين أمرت المسلمين بالقول نعم أو لا له، ولأن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، فعلى الأمة أن تطالب وبشدة أي حركة، أو جماعة، أو حزب، أن تطرح مشروعها الإسلامي بكامل تفاصيله، وأدلته الشرعية التفصيلية، حتى يعرف المسلمون أن الأحكام التي ستتبناها الدولة في الدستور والقوانين هي أحكام شرعية، مستنبطة باجتهاد صحيح، لأن المسلمين لا يلزمون بطاعة الدولة فيما تحكم إلا إذا كان حكماً شرعياً تبنته الدولة.
وعلى هذا الأساس تتبنى الدولة أحكاماً شرعية تكون دستوراً وقوانين، لتحكم بها الناس الذين يحملون تابعيتها.
دستور حزب التحرير نموذجا:
وحزب التحرير وهو يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية، يضع بين أيدي المسلمين مشروعاً لدستور الدولة الإسلامية في العالم الإسلامي، حتى يدرسه المسلمون وهم يعملون لإقامة الدولة الإسلامية لتحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
ولا بد أن يلاحظ أن هذا الدستور ليس مختصاً بقطر معين، بل هو للدولة الإسلامية في العالم الإسلامي، ولا يقصد به أي قطر أو أي بلد مطلقاً.
آمل أن أكون وفقت في توضيح الفكرة والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم أم تقي الدين / ولاية الأردن
* المقال مقتبس بتصرف من كتاب نظام الإسلام للمجتهد والعالم الجليل مؤسس حزب التحرير المفكر تقي الدين النبهاني رحمه الله.