- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾
ورد في الأثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه: "إذا كان العمل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة". وفي الوقت الذي يقبل علينا رمضان، شهر التقوى والتنافس في الأعمال الصالحة، فينبغي لنا التوقف مع قضية مهمة حتى يكون رمضان فعلاً شهر عمل وتقوى، والأهم شهر تغيير بنّاء يصاحب المسلم في باقي أيامه، يعوّده القرب من الله، ويبقيه بقلب منيب حاضر، لا أن يكون مجرد مسابقة يدخلها المرء لزيادة رصيد أعمال ظاهرة، تنتهي مع انتهاء رمضان فيفوز ربما برصيد ضخم ويخسر المقصود: قلبه وأحد عشر شهراً هي من عداد عمره حتى تأتيه الفرصة مرة أخرى!
الله سبحانه يقول في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فغاية الصوم هي التقوى، والتقوى كما عرّفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". فحريّ إذاً بحال المؤمن في رمضان أن يكون حال الأتقياء: يخافون من الله سبحانه، وهذا يقتضي أن ينتفي الخوف ممن سواه، فالله أكبر. وهذا الخوف بحقيقته وقد تفانت بوجوده كل المخاوف الصغرى، من خوف الظالمين، أو خوف المفسدين، وخوف المستقبل والخوف على مصالح دنيوية أو خوف على الأبناء أو خوف على رزق أو عمل، هذا الخوف من الله هو في الحقيقة بوابة كبرى تفتح آفاق العمل الصالح الجاد. فالمؤمن في الحقيقة ليس عاجزاً ولا جباناً. يقينه أن هذه الدنيا ممر، يوقظ فيه همّة كبرى لا ترتضي إلا بالجنّة مقعداً. لسان حاله: "همّتي همّة الملوك ونفسي نفس حرٍّ ترى المذلة كفراً" فلا يُقعده عن العمل لله شيء، لا خوف ولا جزع ولا عجز ولا كسل!
إنّ الله سبحانه وعد المتقين أن يعلّمهم فقال: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾ وقد كان معلمنا وقدوتنا رسول الله يستعيذ بالله في دعائه قائلاً: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ».
ونعود للتقوى مرة أخرى: الخوف من الجليل، يُلزم ويدفع للعمل بالتنزيل، عمل جاد تجتمع فيه قوة البدن وقوة القلب، يجتمع فيه صدق الهم وعلو الهمة. فإن كان العجز هو إرادة القلب وضعف البدن فالمؤمن يحتال له بالهمة الوقادة، ويسخّر كل ما يملك لأجل أن يبلغ بعرجته الجنة! وإن كان الكسل هو قدرة الجسد وخمول القلب فإن الحيلة هي في ذكر هادم اللذات، ومحاسبة النفس وجهادها حتى تستقيم للطاعة فتألفها، فإنه لا شيء أغلى من الجنّة، والعمل الصالح مهر، يوزن بالذرّ، وفي القبر متسع من الوقت يُقضى في غير عمل! فمن أدرك هذه الحقائق اشتعلت همّته وكان حاله حال المسافر حقّاً لا يشغله عن الاستعداد للرحيل شاغل، بل كل حياته ولحظاته وسكناته هي في الحقيقة عمل دؤوب يعمّر فيه قبره، الذي يريده روضة من رياض الجنة.
إن رمضان رحمة من رحمات الله بهذه الأمة، فيه تُصفّد الشياطين، وتغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة. فهي غنيمة يقتنصها العقلاء للوفاء بميثاقهم الذي عاهدوا الله عليه. ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]
رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، وقد يكون هذا باباً للشيطان يدخل منه ليزرع الكسل في نفس المؤمن، يكفيك أن تصوم رمضان القادم، وسيغفر الله ذنوبك، فلا حاجة للعمل! وما أكثر الشياطين التي تعمل بعد رمضان فتشغل المؤمن عن وقته وعمله وآخرته. فهل يضمن مخلوق عمره لثانية أخرى حتى تضمن رمضان القادم؟!
إن نمط الحياة الرأسمالية الذي فُرض علينا بغياب الإسلام عن حياتنا، وهيمنة شياطين الإنس على مجتمعاتنا وتسللهم لبيوتنا بغياب دولة الخلافة، قد أنتج للأسف أجيالاً مغيبة عن أمتها ودينها، تكتفي بالعبادات المفروضة - إن استقام أمرها - وتعيش في انعزال وبُعد عن المجتمع، بل قد تجد الواحد ينعزل عن أهله وأسرته يعيش في عالمه الخاص في فضاء الإنترنت، يقضي وقته في متابعة المسلسلات والأفلام، يكتفي بالعلم الدنيوي، فيذهب للمدرسة أو الجامعة فلا يستفيد بشيء، فتضيع دنياه وآخرته وهو يقف عاجزاً لا يعرف كيف يخرج من دوامة الحسرة والفراغ، يعيش فراغاً روحياً كبيراً، أوقاته إن لم تكن في معصية، فقد وقع في مصيدة الفراغ الذي عدّه رسول الله نعمة مغبون فيها الكثير! ويقع في شباك الكسل الذي استعاذ منه رسول الله. وهذا ما يريده الغرب لشبابنا، الضياع والتيه والعجز الذي يولّد شعوراً بالدونية والنقص، يفقد ثقته بذاته وأمته وإن لم يفقد الثقة بدينه، فهو لا يعلم كيف يكون دينه دافعاً له للحياة بل يتحول - وهذا مما ينفطر له القلب - يتحول الإسلام لطقوس جامدة لا روح فيها بدل أن تكون مصدر قوة وعزيمة.
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾ هكذا يخبرنا الله، وشياطين الغرب وأذنابهم يعدون المسلم بالتيه والضياع ويأمرونه بالمنكر والضلال. وما المليارات التي تنفقها الصين وكوريا وأمريكا وغيرها على المسلسلات والأفلام والتطبيقات التي تهدر الوقت كالتيكتوك إلا وسيلة من وسائل استهدافهم للشباب المسلم. فربحهم الأكبر هو أن يصبح المسلم منتجاً! أن يضيع وقته في اللهو والركض خلف الوهم، فينشغل عن عهده مع الله.
الشيطان حين طرده الله من الجنة ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 62] فغايته الكبرى هي أن تضل مثله، أن لا يبقى وحده في الجحيم، لذلك فإن الله سبحانه جعل الوقت من أحد النعم التي يُحاسب عنها المرء يوم القيامة، وجعل العمر والشباب وعاء للأعمال، يُسأل عنها كما في حديث رسول الله. وشياطين الإنس في غايتهم هذه لم يتركوا وسيلة للهو إلا سخروها بين يديك أخي الكريم حتى يمر رمضانك في لهو وغفلة كباقي الحياة! فأعيذك بالله من هذه الغفلة التي تأكل عمرك، فتأتيك الساعة وأنت لاهٍ ما استعددت للقاء الله.
أختي الحبيبة، أخي الكريم:
إننا على أبواب رمضان، شهر الخير والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكن رمضانك كما يريده أعداء الله. إن رسولنا وحبيبنا الذي نشتاق له كلنا والذي نود لو نشرب شربة ماء من يده لا نظمأ بعدها أبدا، قد واعدنا على الحوض وأوصانا: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ... فَلَا تُسَوِّدُوا وَجْهِي».
إن أمتنا يا كرام على أبواب الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، أمتنا تعمل وتجاهد وتبذل كل مقدراتها ودمائها وتضحي بكل ما تملك لأجل أن تعود دولة رسول الله التي بناها لنا.
فهلم مع أهلكم، شدوا الهمم، واشحذوا عقولكم وقلوبكم بالوحي، وأضيئوا درب أمتكم، كونوا مشاعل نور وهدى، ولا تستسلموا لدعوات الشياطين ولا تكونوا معاول يهدمون بها أمتكم، ويستزلون بها أقدامكم عن درب المجد والنهضة.
رمضان قد أقبل، فأقبلوا على الله، وأقبلوا على دعوته والعمل لدينه، أقبلوا على القرآن حبل نجاتنا، تعلموه وعلموه الناس. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ». رواه البخاري.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً». رواه أبو داود. فلا تجزعوا ولا تكاسلوا، وأبشروا وسددوا، وسارعوا، وليكن رمضان فرصة للبدء، وليكن قول الله سبحانه نصب أعينكم فهذا فيه العون على الخير. ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
بيان جمال