- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تدوين السنة النبوية المطهرة
من بين المسائل المثارة حول السنة النبوية هي مسألة عدم كتابتها في عهد النبي ﷺ والصحابة والتابعين ما يشكل مدخلا لكل ناقد للسنة النبوية المطهرة، وكان عمدتهم في ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». وبنوا عليه أنها لو كانت حجة لأمر النبي ﷺ بكتابتها... ويمكن أن نلخص الرد على هذه المسألة في النقاط التالية:
أولا: ثبت عن النبي ﷺ ما يدل دلالة قاطعة على إباحته لكتابة أحاديثه بل والحث على كتابتها حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما أن أبا شاه اليمني التمس من رسول الله ﷺ أن يكتب له شيئا مما سمعه من خطبته عام فتح مكة، فقال ﷺ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ». وروى أبو داود والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قلت يا رسول الله: إني أسمع منك الشيء فأكتبه. قال: «نَعَمْ». قلت: في الغضب والرضا؟ قال: «نَعَمْ فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا حَقّاً». وروى البخاري عن أبي هريرة أنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ، أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص. فإنه كان يكتب، وأنا لا أكتب" وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال: "كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله ﷺ يسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه فقال له النبي ﷺ: «اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ. وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْخَطِّ» وروى البخاري في صحيحه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سُئل بعد وفاة النبي ﷺ: هل عندكم من رسول الله شيء غير القرآن؟ قال: "لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبداً فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة"، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: "العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". ومن الثابت أن النبي ﷺ كان يرسل إلى رؤساء الدول والقبائل كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام وكان يكتب أيضا لولاته وعماله كتبا يبين فيها أحكام الصدقات والديات والفرائض وبعض السنن، فكل هذا يدل على أن النبي أذن في كتابة أحاديثه وحث عليها.
ثانيا: ثبت عن الصحابة الكرام كتابتهم للسنة النبوية بشكل فردي وشخصي، فقد كان بعض الصحابة يكتبون بعض الأحاديث في حياة النبي ﷺ وبعد وفاته، وثبت امتلاك عدد منهم لصحف خاصة بهم دونوا فيها أحاديثه ﷺ، مثل الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، والصحيفة الصحيحة برواية همام بن منبه عن أبي هريرة، وصحيفة سمرة بن جندب وغيرها. وهكذا تناقل الصحابة الحديث شفاهاً مع بعض الكتابات الفردية المتفرقة، واستمر الأمر على ذلك إلى أوائل عصر التابعين.
ثالثا: لما وصلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين هجرية، أمر بجمع الحديث وتدوينه في مصنفات جامعة، وأول من استجاب لهذا الطلب الرسمي عالم الحجاز والشام، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ثم شاع التدوين وقوي واشتد في الطبقة التي بعده، وممن جمع الحديث في الأمصار، ابن جريج في مكة، وابن إسحاق في المدينة، والربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري في الكوفة، والأوزاعي في الشام، وهشام ومعمر باليمن. ثم بعد ذلك عني العلماء بعد عصر التابعين بإفراد أحاديث النبي ﷺ عن أقوال الصحابة وفتاويهم ثم لم يزل يقوى ويشتد حتى بلغ القمة في القرن الثالث هجري حيث يعد هذا القرن العصر الذهبي لتدوين السنة، فقد وقف عدد من العلماء حياتهم وجهودهم على طلب السنة والرحلة من أجلها، ومن هؤلاء الإمام البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد بن حنبل وغيرهم.
رابعا: ذهب كثير من العلماء إلى أن النهي الوارد في حديث أبي سعيد يمكن توجيهه بالاتجاهات التالية:
1- إن النهي كان في بداية الدعوة الإسلامية كيلا يختلط الحديث بالقرآن، فلما زال هذا الاحتمال وأمن اللبس أذن لهم النبي بالكتابة.
2- أن أحاديث الإباحة في الكتابة ناسخة لأحاديث المنع منها.
3- أن النهي عن الكتابة خاص والإذن بها عام والنهي متعلق بمن يخشى منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ.
4- النهي عن الكتابة متوجه إلى منع الجمع بين القرآن والسنة في صحيفة واحدة، والإذن وارد في التفريق بينهما.
5- حديث أبي سعيد الخدري لا يصح رفعه إلى رسول الله وإنما يصح موقوفا على أبي سعيد الخدري وبالتالي فالحديث الموقوف لا يقوى على معارضة الأحاديث التي ثبت رفعها إلى رسول الله فيكون الحكم لأحاديث الإذن وليس لأحاديث المنع.
وفي الأخير نسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا المقال خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا للدفاع عن سنة نبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
فارس منصور – ولاية العراق