- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
التفكير الاستراتيجي والأحكام الشرعية
التفكير الاستراتيجي مصطلح غربي يقصد به التفكير بالموضوع كواقع مع الأخذ بالنظر جميع الظروف التي تحيط بهذا الواقع ومآلات الأمر بعد حصوله ووقوعه، لذا كان التفكير الاستراتيجي هو أرقى مستوى من التفكير السياسي العميق.
وبسبب هذا التعقيد والمستوى العالي لهذا التفكير نجد أن هناك القليل جدا من الناس من يتميزون بهذا المستوى، بل قد يصل الأمر إلى وجود رجل واحد فقط في كل الأمة بهذا المستوى الراقي والدقيق على الرغم من وجود مفكرين مستنيرين ومخلصين كثر، إلا أن التفكير الاستراتيجي يعتبر تاج هذا التفكير لمن ينعم الله به عليه، هذا أولا.
وثانيا، فإننا باعتبارنا مسلمين نخضع كل أمر وكل فكر لميزان الشرع الحنيف ونقيس الفكر أو الواقع بناء على الحكم الشرعي فيه، فلا يجوز أن نأخذ هذا الفكر على أنه واقع لا يجب تجاوزه أو التخلي عنه، بل يجب دراسة واقع التفكير الاستراتيجي أولا ومن ثم إخضاعه للأحكام الشرعية فإن وافق الأحكام فلا بأس بأخذه وإن خالفها وجب علينا تركه بلا تردد لأن التفكير الاستراتيجي مهما سما وعلا يبقى خاضعا للتفكير البشري المحدود والعاجز والناقص والمحتاج، بينما الحكم الشرعي نابع من وحي الله عز وجل الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ فشتان بين التفكير البشري وبين وحي الله عز وجل!
ولتوضيح هاتين المسألتين نجد أن أصحاب الرسول ﷺ وهم أهل التفكير العميق والمستنير وهم من نزل الوحي فيهم وطبقوه عمليا في واقع حياتهم وأغلبهم مدحهم الرسول الأكرم ﷺ في حياته لصفات وخصائل حميدة فيهم بل كان منهم من الدهاة المعدودين في جزيرة العرب يومئذ، لكنهم جميعا صدموا بالواقع بعد وفاة الرسول ﷺ، حيث بمجرد انتشار الخبر ارتدت غالبية قبائل العرب إما ارتدادا كاملا عن الإسلام أو ارتدادا عن أحكام منه، وبسبب هذا الارتداد لم يبق في المدينة المنورة إلا جيش واحد وهو جيش أسامة رضي الله عنه، وكان الرسول ﷺ قد أعد لهذا الجيش هدفا محددا قبل وفاته ﷺ. هنا اجتمع الصحابة الكرام مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكانوا قد نصبوه خليفة عليهم منذ أيام معدودات، واجتمع معظم الصحابة بمن فيهم كبارهم وأصحاب الرأي السديد فيهم فهداهم (تفكيرهم الاستراتيجي) إلى إبقاء جيش أسامة في المدينة لحمايتها، لكن التزام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بتنفيذ أمر الرسول ﷺ (حكم شرعي) جعله يأمر أسامة بتنفيذ أمر الرسول ﷺ وقال رضي الله عنه: "ما كنت أفك عقدة راية عقدها رسول الله ﷺ"، فهل من التفكير الاستراتيجي إخلاء المدينة المنورة من القوة العسكرية الوحيدة التي تحميها في الوقت الذي وصل فيه إلى أسماع أهل المدينة أن بعض القبائل تستعد لمهاجمتها؟!
فتفكير الصحابة الاستراتيجي كان تفكيرا واقعيا بينما كان تفكير سيدنا أبي بكر تفكيرا نابعا عن تنفيذ الأحكام الشرعية، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الخير كله في إنفاذ هذا الجيش؛ فبهذه الحركة انتقل المسلمون حرفيا من فكرة الدفاع إلى فكرة الهجوم، وأعادت كل القبائل المارقة المرتدة حساباتها وقالوا لبعضهم إن كانت لهم هذه القوة فمن العبث والخطورة بمكان أن نبادئهم بالحرب. فكانت نجاة المسلمين بتنفيذ هذا الحكم وترك ما اقتضاه التفكير الاستراتيجي من عمل.
وبعدها وبعد استقرار الوضع أمر الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بتجهيز الجيوش لمقاتلة المرتدين كلهم لكن الصحابة الكرام أيضا عارضوه في هذا الرأي وقالوا لنقاتل أولا من ارتد بكليته ومن ثم نتفرغ للآخرين من الذين تركوا حكم الزكاة!
هنا أيضا ربط سيدنا أبو بكر رضي الله عنه التفكير الاستراتيجي بالأحكام الشرعية فقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"، وكان هنا أيضا لوحده في قراره هذا وما زال الصحابة يراجعونه حتى شرح الله صدرهم لما شرح له صدر أبي بكر.
وهنا أيضا كان النصر المؤزر للمسلمين على أعدائهم من المرتدين، وما كان ذلك النصر ليتحقق لولا وجود رجل واحد فقط فريد من نوعه يجمع ما بين التفكير الاستراتيجي والأحكام الشرعية، وبعبارة أخرى إخضاع أعمال التفكير الاستراتيجي للحكم الشرعي، فكما قلنا إذا كان التفكير الاستراتيجي هو تاج التفكير العميق والمستنير فإن الأحكام الشرعية تكون تاجا للتفكير الاستراتيجي ذاته، فالتزامنا بأحكام ربنا جل في علاه وتطبيقنا لها وحرصنا عليها هو الذي يفتح لنا الطريق الصحيح في دياجير الظلام الذي نعيش فيه، فلا خلاص ولا نجاة ولا عز ولا تمكين لنا بمعزل عن أحكام ربنا جل في علاه. "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ريان عادل – ولاية العراق