- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾
عندما دخل الأوروبيون قارة أفريقيا في بداية رحلاتهم الاستعمارية يقال إنهم اندهشوا وسال لعابهم لكثرة الخيرات الطبيعية والحيوانيّة في تلك البلاد لدرجة أنهم كانوا - كما يقال - يريدون حلب النملة وأخذ حليبها إلى بلادهم!
كان عند المستعمرين الأوروبيين خيال جشع جداً ووهم كبير بأنهم أذكى من باقي البشر، كما يقال بالعامية "حدقين"! لاحظ المستعمرون وجود قطعان كبيرة من الحمر الوحشية في كل مكان، والطريف أن هذه الحمير لم تنج من جشعهم حين قرروا أن يروضوها كبديل عن الخيل، ولم يسألوا أنفسهم لماذا لم يفعل السكان المحليون ذلك قبلهم. طبعاً لم يسألوا الأفارقة لأنهم أصلا لا يعتبرونهم بشرا وإن كانوا يشبهون البشر، فهم ليس لديهم مخ ذكي كالبيض (الأوروبيين)! المهم أن عدداً لا بأس فيه من الأوروبيين مات وأصيب عدد آخر في محاولات فاشلة لترويض الحمر الوحشية ولكن بلا جدوى. استغرب الأوروبيون الأمر فاضطروا عندها أن يسألوا الأفارقة إن كانوا قد جربوا ترويض الحمر الوحشية، وإن كانت هناك طريقة لترويضها؟ فرد الأفارقة أن هذا أمر مستحيل، فسألهم الأوروبيون ولم لا؟ قال الأفارقة إن رفسة الحمار الوحشي قاتلة. فقال الأوروبيون: ولكن الخيل رفستها خطيرة أيضا بل قد تكون قاتلة ومع ذلك استطاع الإنسان ترويضها، فرد الأفارقة: الخيل يرفس خوفاً ودفاعاً عن نفسه، أما الحمار الوحشي فيرفس هجوماً وعدواناً وبنيّة القتل. فابتعد الأوروبيون عن الحمر الوحشية ولم يقتربوا منها بعد ذلك.
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾، فمن يدافع ولا يهاجم سينتهي به الحال لأن يروَّض ويُستعبد مهما كان كبيرا أو قويا، ومن يهاجم ويبادر ويري بأسه وشدته وفروسيته يبقى حرا وتدين له البلاد والرقاب والثروات. هذه قاعدة في الحياة عموما وفي السياسة خصوصا؛ أن من يفضل الدفاع على الهجوم يقع ضحية لتنازلاته من أجل البقاء وينتهي به المطاف مركوباً مذلولاً مروَّضاً أليفاً ومستعبداً. أما الجيوش التي تمتلك العقيدة الهجومية فإنها تهاجم وتري بأسها وشدتها وتهابها العقول المريضة والخبيثة الطامعة في استعباد بلادها وخيراتها وثرواتها وشعبها، وهذه الجيوش ذات العقيدة القتالية الهجومية التوسعية تبقى حرة وذات سيادة واستقلال.
وعلى مر التاريخ البشري كل من تبنى العقيدة الدفاعية انتهى به الأمر بأن يهزمه الطامعون والغزاة والمستعمرون وكل من تبنى العقيدة القتالية والهجومية والتوسعية صار قويا مهاب الجانب عزيزا شامخا كبيرا.
وتاريخ المسلمين خير دليل على كلتا الحالتين؛ فعندما انطلق الرسول ﷺ بالغزوات والمعارك فتح الجزيرة العربية وأخضع مكة وتوسع من المدينة ليحكم الجزيرة العربية، ثم استمر الصحابة رضوان الله عليهم بالفتوحات من بعده فأسقطوا أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ فارس والروم، واستمر المسلمون بالجهاد من بعدهم إلى أن فتحوا القسطنطينية. قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
ولكن بعد هدم الخلافة وتشرذم المسلمين في أكثر من 56 كيانا تبنت هذه الكيانات عقيدة الدفاع والخنوع والقعود إرضاء للمستعمرين وتنفيذا لرغباتهم، وآثرت جيوش المسلمين القعود والكسل فانحسر نشر الدعوة الإسلامية وفقدت الأمة شرف الفتوحات وزاد الطامعون فيها وفي خيراتها حتى ضعفت قدرتها على الدفاع حتى عن نفسها، وباتت تُغزى في عقر دارها! وإن ما يحدث في غزة اليوم منذ ما يقرب الستة أشهر من إبادة جماعية ومجازر يندى لها جبين الشرفاء بينما أمة الملياري مسلم وما يزيد عن 56 جيشا ينظرون ويتفرجون ولا يتحركون ولا ينصرون طفلا ولا رضيعا ولا شيخا ولا امرأة، إن هذا كله هو غيض من فيض وقطرة من بحر للتدليل على مدى ذل المسلمين بعد ذهاب خلافتهم وتبني جيوشهم عقيدة الدفاع والاستكانة والخضوع والذل.
وصدق رسول الله ﷺ إذ قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلّاً لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». رواه أبو داود.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. فرج ممدوح