- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
أين هيبة لغة القرآن؟ وكيف نستعيدها؟
مقــدمة
لقد منّ الله سبحانه على العرب أن جعل العربية لهم لساناً، وزادها شرفاً وجمالاً وبياناً، فأنزل بحروفها الذكر قرآناً، واصطفى لرسالة الإسلام سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفصح الناس لساناً وأجملهم بياناً، بعد أن وهبه جوامع الكلم ففاق الناس أدباً وفضلاً وجمالاً، وهو القائل ﷺ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً». لقد انطلقت أعظم رسالة لخير الأمم بالكلمة المفتاح: ﴿اقْرَأْ﴾، فكانت أول قطرة من الغيث الرباني للإعجاز البياني، وجاءت بمنزلة أوّل شعاع ينير أرجاء الدنيا بنور العلم والهداية الربانية مبشرة بعودة اتصال السماء بالأرض ليعم النور البشرية بأنفاس جبريل عليه السلام. ثم كان لامتزاج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية منذ فجر الإسلام أثر بليغ على المسلمين أفرادا وجماعات، في مختلف العلوم والمجالات، وعلى طراز عيشهم ونسق بناء حضارتهم، في ظل دولة تقوم على اللغة العربية كلغة رسمية لستّة قرون متتالية، فبقيت لغة الضاد شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وشكل هذا الامتزاج بين الطاقتين طاقة حراريّة قويّة دافعة دافقة، فحركت العقول والقلوب وسحرت الأسماع والأبصار واستنفرت الناس للتغيير، فخر الجبابرةُ أمامها ساجدين، وتقدم المسلمون في الورى فاتحين. فالطاقة العربية وحدها لا شيء، والإسلام لا يوجد بدون اللغة العربية، ولذلك كانت اللغة العربية ركيزة أساسية لفهم الإسلام ونشره والدعوة إليه.
ولكن من مصائب هذا الزمن الذي افترق فيه القرآن والسلطان، وابتعد فيه المسلمون عن هدي الرحمن، أن ابتلينا بغزو فكري وثقافي يسعى إلى اجتثاث الإسلام من جذوره وإلى محو القرآن من قلوب المسلمين وعقولهم، بعد أن ظل لقرون مصدر قوتهم وعزتهم حين أحسنوا فهمه وتطبيقه فأقاموا حروفه وحدوده. ومن أخطر أساليب هذه الحملة الصليبية التي أورثت انحدارا سريعا وهبوطا فظيعا إلى هوة الانحطاط، إضعاف صلة المسلمين بلغة القرآن كوسيلة لإضعاف صلة المسلمين بالقرآن نفسه، وما دام كتاب الله محفوظا بحفظه، فلم يجدوا من طريق غير هزيمة هذه اللغة السامية وتوجيه سهام الحقد إليها، فإذا ما هُزِمت، تسهلُ هزيمة ما تحتويه من تراث مُشرِّف وهدي غير محرَّف، لأن اللغة كالإناء إذا كُسر ضاع محتواه.
وبينما كان الخلفاء أحرص الناس على الاعتناء بلغة الإسلام واتّقاء اللّحن في الكلام، ابتلينا اليوم بحكام لم نر منهم إلا الشرور، يجرّون المرفوع وينصبون المجرور، تلازمهم الركاكة في القول والعمالة في الفعل، لا يفرقون بين الآية والحديث عند ممارسة الدجل السياسي استخفافا بالمسلمين وبدينهم وبلغتهم. بل وصل الحال في بعض الديار إلى تقعيد بعض اللهجات العامية على غرار الأمازيغية في إفريقية. فكيف يمكن التصدي لهذه الحملة الشرسة زمن الجاهلية المعاصرة الملتحفة برداء الحداثة، وكيف يمكن استعادة هيبة لغة القرآن وانتشالها من بين ركام الزندقة لإعادة بريقها الذي أراده الله رب العالمين، وخاصة في هذا العصر الرقمي الذي صارت تُكتب فيه العربيّة بأحرف لاتينيّة؟ وأي دور لدولة الخلافة في هذا المسار؟
لغتنا العربية، شرف عظيم وجزء من الدين
اللغة عموما هي وعاء للأفكار والمعارف، علمية كانت أم ثقافية، واللغة العربية هي وعاء الكتاب الخالد، بها نَزل وحُفظ وخُلّد، والقرآن الكريم شرّفها ورفعها وزادها فخراً وثراءً وعظمةً ودواماً، فكان بها قرآنا كريما دائم العطاء إلى يوم يُبعثون، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾. وكل مسلم محتاج إلى هذه اللغة الشريفة، ليقرأ الكتاب والسنة ويأخذ الدّينَ من منبعه الأصيل، فلا يتعطل الكتاب ولا تموت السنة في خير أمة أخرجت للناس. هذا هو الأصل وما سواه استثناء. ولا تنفك اللغة العربية عن الإسلام بل هي جزء منه، إذ بها يمارس المسلم عباداته وشعائره وأذكاره وأوراده بالغدو والآصال، ويتلو بها القرآن آناء الليل وأطراف النهار، بقراءات سبع متواترة وعلى سبعة أحرف لقوله ﷺ: «إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»، متفق عليه. كما أن كل عالم ومتعلم في حاجة لهذه اللغة لأنها الأساس لكل علم ومناطه، فهي أداة التعلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، بل هي جزء من بناء الهوية وصقل الشخصية لدى تلامذة المدرسة المحمديّة. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنَا بَیَانَهُ﴾.
لغة العرب هذه ليست كسائر اللغات بل هي لغة فريدةٌ عجيبة مبهرةٌ مذهلة، وقد نزل القرآن في عرب الجاهلية بما عُرف عنهم من اهتمام بالشعر في استواء نَظْمِه وصِحّة سَبْكِه وجمال رَوْنَقِه، فجاء القرآن متحديا لهم من جنس ما تميّزوا به وهو البيان والفصاحة والبلاغة، ولم يستطع أحد من العرب أن يحاكيه أو يجاريه أو يماريه.
إن معجزات الأنبياء التي أقاموا بها الدليل على نبوّتهم ورسالتهم انتهت بوفاتهم، كما هي معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وهي معجزات حسّية، أما نبّينا وقائدنا محمد ﷺ فإن معجزته فكريّة تخاطب العقل ولا تقف عند الحواس، وهي موجهة للبشرية جمعاء وصالحة إلى نهاية العالم. هذه المعجزة العظيمة، هي القرآن الذي بين أيدينا، لكن تمام فهمنا وإدراكنا لكونها معجزةً حقا لا يتأتى إلا بتعلم اللغة العربية، وإدراك أسرارها، وفقه معانيها، من أجل حسن التدبر، لأن وجه الإعجاز في هذا الكتاب العظيم بلاغي بياني، ولأن الشكل الأدبِيّ للقرآن ليس في متناول البشر، بل في متناول من خلق البشر وخلق القدرة على الكلام في البشرِ، ألا وهو الله سبحانه وتعالى. وبالتالي فهي جزء جوهري في إعجاز القرآن فضلا عن كونها لغة أهل الجنة (جعلنا الله منهم).
هي إذن لغة الإعجاز القرآني، ولغة البيان النبوي، ولغة الضاد التي استوعبت الأدب العربي شعراً ونثراً، وتزخر بكثير مما يميزها عن لغات العالم، فهي لغة غنية ثرية، ثابتة راسخة، قوية مؤثرة، وهي ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ لأكثر من خمسة عشر قرنا، وهي كذلك مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي، لأن الثروة الفقهية والتشريعية الإسلامية كلها مقيّدة ومدوّنة بالعربيّة، ولا تخفى قيمة التشريع عند الأمم، فهو حلقة الوصل بين الأمّة وعلمائها، وهو الذي يحدد شخصيّتها ويرسم ملامحها ويُشكّل حضارتها ويقوّيها في ساحة المواجهة الفكريّة ضد جميع الدساتير الوضعيّة، لأنه مصدر معالجاتها المأخوذة من كلام رب العالمين، وقد شاء الله أن يكون كلامه بلسان عربي مبين.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾.
لقد سال الكثير من الحبر على مر العصور حول فضل اللغة العربية وأهمية تعلمها بل وجوب ذلك باعتبارها من الدين كما قال بذلك الفقهاء، ولو ذهبنا نستقصي كلام العلماء في هذا الباب لطال بنا المقام، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وحسبنا أن نستشهد بهذه المقولات لأهميتها:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، لأن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (اقتضاء الصراط المستقيم: 207).
- يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات): "إن هذه الشريعة المباركة عربية، فمن أراد تفهمها فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة".
- يقول ابن الأثير رحمه الله: "معرفة اللغة والإعراب هما أصل لمعرفة الحديث وغيره، لورود الشريعة المطهرة بلسان العرب".
- يقول ابن الأنباري رحمه الله: "إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرْط في رتبة الاجتهاد، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو، فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره. فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه، لا تتم إلا به".
- يقول الشافعي رحمه الله: "أصحاب العربية جِنُّ الإنس، يُبصرون ما لم يبصرْ غيرُهم".
- وكان علماء الدين يقولون: "من تكلّم في الفقه بغير لغةٍ تكلم بلسان قصير".
تاريخ ومكانة اللغة العربية في ظل الحكم بالإسلام
لقد عُرفت اللغة العربية عبر عصور الحكم الإسلامي بكونها زهرة التأريخ، وشهادة الأجيال، والمنهل العذب، والبيان الساحر، ومفتاح الحق المبين. فهي حاملة رسالة الإسلام، وأداة تبليغ الوحيين، محفوظة بحفظ القرآن الكريم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾. وفوق كونها لغة الإعجاز الإلهي والإبداع الأدبي، فهي أيضا لغة الصراع الفكري والكفاح السياسي ضد الكفر وقادته، وربما كانت قريش أكثر من يعرف قيمة هذه اللغة ومدلولاتها ومآلاتها السياسية والاستراتيجية، بعد أن سفه القرآن أحلامها ونسف أوهامها وانتقد سياساتها ورموزها وسهل فيما بعد سقوطها وخضوع قادتها أمام الفتح الإسلامي، بعد أن انهالت عليهم سهام النقد من كل حدب وصوب، فقد نزل قوله تعالى ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ في أبي جهينة ونزل قوله سبحانه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ في عبد العزى بن عبد المطلب، ونزل قوله سبحانه ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ في الوليد بن المغيرة، وغيرها من الآيات، حتى قال ابن قتيبة: "لا نعلم أن الله وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة". فلم يهادن الخطاب القرآني ولم يداهن أحدا، ولم يكن خطاب ركون ومسايرة واستجداء، ولو قيد أنملة، ولا بحثا عن حل وسط أو فسحة للمشاركة السياسية، بل كان ناطقا بالحق المبين راسما الخط المستقيم أمام الخطوط المعوجة.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾. بل إن الله عز وجل قد حذر نبيّه ﷺ في حال الركون إلى الكفار فقال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾.
ثم لما ضاقت قريش بالقرآن الكريم وبأسلوبه وبيانه ذرعاً، طلبت من الوليد بن المغيرة أن يقول في القرآن قولاً يبلغ قومه أنه كاره له، ومنكر له! فقال الوليد: وماذا أقول فوالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته!
وهكذا، أجرى الله الحق على لسان العدو قبل الصديق، فكانت اللغة العربية فوق سحرها وبيانها أداةً لكشف زيف وبطلان ادعاءات الكفار والمنافقين، ووعاءً لمواجهةٍ سياسيّةٍ ومفاصلة عقائديّةٍ مسدّدةٍ بالوحي، وسلاحَ حربٍ نفسيّةٍ حاسمةٍ ضدّهم، تهدف إلى استبدال واقع الخنوع والخضوع لمن سوى الله بواقع الركوع لله وحده، وواقع عبادة العباد إلى واقع عبادة رب العباد. من هنا نتبين أن حسن اختيار الألفاظ وانتقاء الكلمات في المعارك الفكرية والسياسية ضد الطغاة هو من أفضل الجهاد. فجهاد الكلام أفضل في الإسلام من جهاد الحُسام، وصرير قلم الرّصاص قد يفوق أزيز قذيفة الرّصاص، وعلى مجاهد الكلمة في ميدان الصراع الفكري والكفاح السياسي أن يتقن استعمال وعاء أفكاره حتى يصيب الظالم في مقتلٍ قبل أن يُشهر سيوف حروفه أو يُطلق رصاص كلماته. وقد أبدع التعبير القرآني في وصف طبيعة هذا الصراع الأزلي بين الحق والباطل بإيجاز مُبْهِر في قوله سبحانه: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾.
لقد اهتم الخلفاء الراشدون باللغة العربية، وتُرْجِم هذا الاهتمامُ في أقواهم وأفعالهم، حيث قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ وتُثَبِّتُ الْعَقْلَ". وقال رضي الله عنه: "تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم".
وقال ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي باشر نسخ القرآن سبع نسخ (برسم توقيفي) بسبب اختلاف القراءة: "إنَّ الله لما أنزل كتابَه باللسان العربي، وجعل رسولَه مبلغاً عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السَّابقين إلى هذا الدين متكلِّمين به، ولم يكن سبيلٌ إلى ضبط الدِّينِ ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، صارت معرفته من الدِّين، وأقرب إلى إقامةِ شعائر الدين".
كما يُروى أن الخليفة الراشد عليّاً رضي الله عنه هو الذي وجَّه أبا الأسود الدؤلي إلى أن يضع أصولَ علم النحو حفظاً على اللغة العربية من الضياع. ومن العلوم المهمة جدّاً في فَهم كلام الله سبحانه وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، بعد علوم العربية: علم أصول الفقه الذي يُحدِّد قواعد استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في القرآن والسنة، وهو بحر لا ساحل له، والإمام الشافعي رحمه الله (أصيل غزة هاشم) هو أول من صنّف في أصول الفقه، فكان كتابه "الرسالة" من أنفس ما كتب في هذا الفنّ، وكأن لسانه ينظم الدرّ كما قال الجاحظ. وكُتُبه كلها مُثُلٌ رائعة من الأدب العربي النقي، في الذِّروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيَّته، ويُملي بفطرته، لا يتكلَّف ولا يتصنَّع، أفصح نثرٍ تقرؤه بعد القرآن والحديث، لا يُساميه قائل، ولا يُدانيه كاتب، فكان الشافعي رحمه الله حجة في اللغة، يُسْتشهدُ بقوله، كما شَهِد له بذلك أئمة اللغة أنفسهم.
ثم بلغت اللغة ذروتها في عهد الرشيد؛ لنمو الثقافة والحضارة في عهده، وقد كان هارون ظِلَّها الظليل، والمغْدِق على العلماء والشعراء والأدباء، لما تميز به من دقة في الذوق، وقد أخذت علوم العربية في عهده نهضة جديدة اقترنت بأسماء الأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي زيد، والفراء، والكسائي، وهؤلاء جميعاً اتخذوا لغة البدو هي المَثَل الأعلى، والنموذج الرفيع، وكانوا دائما يقاومون لغة العامة في لحنهم، حتى أنكروا على الفراء أنه لحن بمحضر الرشيد، وأنه اعتذر عن ذلك بأن اللحن عند سكان المدن لازم لهم كالأعراب عند أهل البادية.
تاريخيا، ارتبط انتشار اللغة العربية بالفتوحات الإسلامية، وقد حظيت بمكانة رائعة خلال ذروة الحكم المغربي في الأندلس، حيث ازدهرت الجامعات والأدب والفنون والموسيقى والعمارة العربية المميزة في وقت كانت فيه بقية أوروبا تعاني من تدهور العصور الوسطى وسيطرة الكنيسة. حتى إن أفراد العائلة المالكة والحكام والنخب كانوا يرسلون أبناءهم للدراسة في الجامعات الناطقة بالعربية في الأندلس. بل كان العلماء مثل ابن الهيثم والخوارزمي وابن حيّان وغيرهم معروفين في جميع أنحاء أوروبا وشكلوا نقطة انطلاق لعصر النهضة، وأساسا فعليا لبناء علمي وتكنولوجي في الغرب، لا نزال نلمس أثره إلى اليوم.
ضعف الصلة بلغة القرآن زمن الانحطاط
كانت الثقافة الإسلامية مصدر إلهام للبشرية عندما كانت أوروبا غارقة في عصور الظلام. ولكن بعد قرون، تراجعت الأمور: انهار الحكم الإسلامي للأندلس، ثم ضعف فهم الإسلام وانعدم الاجتهاد وفشا التقليد، نتيجة فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية، وتخلي الدولة عن العربية كلغة رسمية، فخسرت الأمة بعد قرون سلطانها، ووقعت ضحية حقبة من الاستعمار الغربي، تراجعت خلالها اللغة العربية بشكل طبيعي، مع انعكاس العلاقة بين الفاتح والمهزوم، حتى انقلب المد على اللغة العربية، وبدأ المسلمون فوق ضعف تمكنهم من اللغة الأم وضعف التعريب، يشعرون بضغوط تعلم لغة مستعمريهم.
في هذا الصدد، يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتاب (وحي القلم): "ما ذَلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرِضُ الأجنبيُّ المستعمرُ لغتَه فرضاً على الأمةِ المستعمَرَة، ويركبهم بها ويُشعرهم عَظَمَته فيها، ويَستَلحِقُهُم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أما الأولُ: فحبْسُ لغتهم في لغتِهِ سِجناً مؤبداً. وأما الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً. وأما الثالثُ: فتقييدُ مستقبلهم في الأغلالِ التي يصنعُها، فأمرهم من بعدِها لأمرِهِ تَبَعٌ".
ويقول ابن خلدون الذي ذكر مراحل فساد اللسان العربي عبر التاريخ في الباب الرابع من "المقدمة" (الفصل 22) بشيء من التفصيل: "إن قوة اللغة في أمّة ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم".
هذا الاستعمار الذي أسقط دولتها، فرض على الأمة أن تعيش مع لغتها أشكالا من الغربة والتنصل والانبتات، أدت إلى حالة من التيه والضياع يغذيها تمسح الحكام على أعتاب أسيادهم واستقواؤهم على بني جلدتهم، حتى غدا اللحن في القول أمرا شائعا ومألوفا، وساد انعدام الذوق في اللغة إلى درجة صار فيها الاهتمام بربطة العنق مقدماً عند بعض المحاضرين على الاهتمام بمضمون الخطاب وغاياته، فضلا عن تراكيبه ومفرداته، حتى سمعنا مؤخرا بمذيع من أصل عربي يتباهى بتعلم اللغة العربية على أيدي مختصين في قناة البي بي سي البريطانية، ليصبح فيصلا قاسما لظهر المسلمين وسيفا إعلاميا مسلطا على رقابهم. وقد زاد التواصل الإلكتروني الطين بلّة، فغاب التواصل الاجتماعي الفعلي والاتصال الحيّ المباشر ليُختزل "التواصل" في لوحة مفاتيح وأجهزة صماء بكماء قد تخفي مظهرية جوفاء، وغابت أحيانا الكلمات العربية لتحل مكانها الرموز التعبيرية.
خلق هذا التردد في التعامل مع اللغات والثقافات الدخيلة حالة من "البَيْنَ بَيْن"، وصار جمعٌ من النّاس يعيشون وضعية الغُراب الذي نسي مشيته حين أراد تقليد مشية الحمامة، حتى لم يعد الواحد فيهم يستشعر بوخز الهزيمة ولا مرّ مذاقها، بل هو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، فألفوا حياة الذل والهوان والاستعباد، واستمرؤوا العيش في غير ظلال القرآن وبغير هدي الرّحمن، بل صاروا أمواتا وهم أحياء، في سجون كبيرة تسمى أوطانا ولم تُوطّن إلا تغييب سلطان الإسلام، مصداقا لقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميتٍ *** إنمـا الميتُ ميِّتُ الأحـياءِ
ومن قَبِل مرّ المذلة والمهانة ساعة، تجرع كأس الذل طول حياته. وفي ذلك يقول المتنبي:
من يهنْ يسهل الهوان عليه *** مــــــا لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
وغني عن البيان أننا عندما نتكلم عن اللغة العربية، فإننا نعني: اللغة الفصحى، لا اللهجاتِ المحلية العامية التي ابتعدتْ عن أصلها، وتباينت فيما بينها تبايناً كبيراً، جعل العربي المشرقي لا يكاد يفهم شيئاً مِن عامية العربي المغربي، والعكس بالعكس!
قد يظن البعض هنا أن تبسيط المفاهيم والأفكار وخطاب الخاصة للعامة في هذا الزمان يمرّ بالضرورة عبر استعمال اللهجات العاميّة، وهذا مجانب للصواب، بل ربما يعكس هذا الفهم انتقاصا من هيبة لغة القرآن ويكشف ضبابية في تصور الأمور وجزءاً من القصور في التعامل مع اللغة العربية الفصحى القادرة على البيان ورفع الإبهام عن معاني الأفكار ومعاني الألفاظ بما يميزها من وفرة واتساع وقدرة على معانقة الإبداع، سواء من خلال الاشتقاق أم من خلال التعريب. والأصل هو حمل الناس على تعلم لغة القرآن وتدريب الآذان على الاستماع إليها بما يفتق الأذهان ويعين على الالتزام بمخارج الحروف وتحقيق صفاتها، لا تكريس البيئة اللغوية المتردية المصطنعة بالنزول إلى العامية التي تزاحم الفصحى مزاحمة غير متعادلة بكل وسائل التعلم والتعليم والتلقي والتلقين، بحيث أصبحت الآذان والأسماع مصبّا للملوثات الصوتية من اللهجة العاميّة، وصار الناس أسرى أمام الشاشات الرقميّة، حتى صرنا نتحدث عن الهشاشة النفسية وعن غياب المهارات اللغوية وانعدام التواصل الاجتماعي عند الأطفال فيما يعرف باضطراب طيف التوحد...
فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وكيف نترك لغة شريفة قويمة كالفصحى، لتزاحمها وتنتصر عليها لغة خسيسة منحرفة تفسح الطريق أحيانا أمام مصطلحات أجنبية بلهاء، طالما حرصت البرامج الهزلية على تمريرها وتكرارها كي تتربى عليها الأسماع وتحن إليها القلوب ويتعود على محاكاتها الصغار قبل الكبار؟ وكيف سنحصل على البناء الفكري إذا غاب البناء اللغوي؟ وهل الحصول على تأييد جماهير العالم الافتراضي مقدم على الاهتمام بلغة القرآن، علما وأنه مُسيّر ومحكوم بخوارزميات ثبتت محاربتها للغة العربية وحظرها للعديد من ألفاظها وكلماتها؟ وهل العيب في الزمان الذي انتشر فيه الحديث بالعامية وزاد فيه الحنين إلى سماعها أم فيمن رضي وقبل بتكريس واقع الانحطاط، فضعفت صلته بالقرآن حين ضعفت صلته بلغة القرآن فتشوّش فكرُه وتبلّد إحساسُه وفسد لسانه العربي نزولا عند رغبة عوام الناس وانجذابا إلى مغناطيس الواقعية؟
رحم الله الشافعي حين قال في زمانه:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا *** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ *** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
والسؤال الأهم الآن: هل يمكن إنهاض المسلمين بغير اللغة العربية؟ بل هل يمكن أن يتغير حالنا وأن تقوم لنا قائمة بغير اللغة العربية؟
الخلافة الراشدة الثانية ضرورة لاستعادة هيبة لغة القرآن
إننا عندما نتحدث عن النهضة والوضع الأمثل لصنع أمة كبرى ودولة كبرى تزاحم على الموقف الدولي فلا شك أن معادلة مزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية هو الوضع الأمثل والصحيح، لأن فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية يفضي إلى انحطاط الأمة وضعفها وتعاظم جراحها ومآسيها، كما حصل عندما انتقلت الخلافة لغير العرب منذ القرن السابع للهجرة، لأنه لا اجتهاد بغير اللغة العربية، ولأن الحاضنة الشعبية الأقدر على فهم الإسلام والتفاعل معه من أجل الارتكاز في بناء الدولة الإسلامية هي الحاضنة الشعبية العربية، وهذه حقيقة لا يجب القفز فوقها. بل من المهم الانتباه إلى أن طوفان الأقصى ومن قبله طوفان الشام (الذي تدفق نبعه من أرض الزيتونة واستقر في عقر دار الإسلام)، كان بداية لتشكل مدّ إسلامي واثق كنهر قوي دافق، استمد قوته من ارتباطه بالقرآن وانبثاقه من عقيدة الإسلام، فتشكلت في بلاد الشام طاقة عابرة للحدود، أرعبت الغرب وأحيت الأمة وأيقظتها وجعلتها تستشعر مرحلة المخاض التي تعيشها، كما دلتها على مواطن القوة والضعف فيها، لتعيد تشكيل نفسها من جديد، قبيل انتقالها إلى مرحلة احتضان الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، كما وضعتها أمام حقيقة الصراع الحضاري والوجودي بين الإسلام والكفر. وما التخبط الذي يعيشه الغرب الداعم لجرائم كيان يهود في حربه المعلنة على أهلنا في الأرض المباركة وبخاصة في غزة، إلا مظهر من مظاهر الفزع من قرب تحقق وعد الآخرة، حيث صار التوجس من الخلافة المرتقبة ظاهراً وماثلاً للعيان.
ولذلك ظل الغرب يستهدف الإسلام "المحمول" عربيا، أي يستهدف الحاضنة المثلى للإسلام وهم العرب. إذ العروبة وحدها لا تمثل تحدياً حضارياً أممياً، فلم يحمل العرب رسالة اللغة أو قيمهم القومية إلى العالم وإنما حملوا الإسلام عقيدة ونظاما. فالقومية العربية لا تقوّض العقيدة الرأسمالية لأن القومية ليست عقيدة، والذي جعل للعرب قوة ومهابة ومحا حضارات ومعتقدات هو الإسلام الذي يحاربونه عن قوس واحدة، وحتى العرب أنفسهم لم ينهضوا ويرتقوا إلى مصاف الدول والأمم العظمى برغم خصائصهم الحميدة من لغة وتقاليد وسجايا إلا بالإسلام. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
وعليه فإن الخطر الحقيقي الذي يحاربه الغرب يكمن في النموذج الذي يسعى إلى الارتكاز على الطاقة العربية والطاقة الإسلامية في النهوض، ولذلك أطلقوا على الإسلام الأفكار قبل إطلاق النار، وما استعمال الأسلحة النارية إلا دليل على الإفلاس الفكري والهزيمة الحضارية، كما استنهضوا شياطين المسلمين المعتدلين والقوميين العلمانيين ومن يدور في فلكهم من زنادقة ومطبعين و"قرآنيين" ومذهبيين على شاكلة رواد مركز "تكوين" الذي أنشئ مؤخرا، وذلك لمنع قدوم هذا النموذج وللحيلولة دون استئناف الحياة بالإسلام. ومع ذلك سيخيب فألهم ورجاؤهم بإذن الله ما دام في الأمة بقية من رجال.
إن تعلم العربية واجب شرعي، فهي لغة الإسلام ولغة القرآن، ولا يمكن الاجتهاد وفهم النصوص الشرعية إلا بها. ولهذا كان فرضا أن تكون اللغة العربية هي وحدها لغة دولة الخلافة، وأن تكون اللغات الأخرى فرضا على الكفاية بما يلزم لحمل الدعوة ورعاية شؤون الأمة وخاصة للترجمة. وكما أن قيام الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، سيكون حدثا عظيما مزلزلا لدول الغرب وقوى الكفر قاطبة بإذن الله، فإن ما ستقوم به الدولة من تفجير للطاقات وتركيز للمشروع الإسلامي الذي يقوم على أحكام القرآن وينتشر ويقود الناس فكريا بلغة القرآن، سيكون بعون الله أمرا رهيبا مهيبا يشدخ نافوخ الكفر، ويسحب البساط من تحت أقدامه قبل أن يصحو من صدمته، فيَدخلَ النّاس في دين الله أفواجا، ويَظهرَ هذا الدّينُ على الدّين كلّه، وما أحداث طوفان الأقصى وقتال المجاهدين من تحت الأنفاق بما صنعت أيديهم إلا مجرد "بث تجريبي" يستبق قيام الدولة وعودة سلطان الإسلام، وإنّ غدا لناظره قريب. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
اللغة العربية زمن الثورة الرقمية
قد يقول قائل، في عصر الرقمنة الذي نعيشه اليوم: كيف للعربية أن تجد حظها بين اللغات وقد اكتسحت البرمجة وتكنولوجيا المعلومات كل المجالات دون استثناء وتمت عولمتها بغير اللغة العربية حتى غابت فكرة منافستها عن الأذهان؟ وهذا في الحقيقة سؤال وجيه أمام تغول اللغة الإنجليزية في هذا المضمار، ولكن الإجابة عليه تقتضي فهم العلاقة بين اللغة والبرمجة:
إن البرمجة تقوم أساسا على الخوارزميات، والخوارزمية هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما. وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي، أي في ظل الخلافة العباسية التي احتضنته، وهذه حقيقة ساطعة يشهد بها القاصي والداني، ولا ينكرها إلا جاحد. أي إن الفضل في وجود هذه الخوارزميات اليوم يعود ابتداء إلى العالم المسلم الخوارزمي الذي أنجز معظم بحوثه في "دار الحكمة" التي أسسها الخليفة المأمون في بغداد، والكلمة المنتشرة في اللغات اللاتينية والأوروبية والمعبرة عن الخوارزمية، هي "algorithm". وبعبارة أخرى، فإن أي برنامج مهما كان حجمه أو نوعه أو مجاله هو عبارة عن خوارزمية، والخوارزمية في عهد الحوسبة هي مجموعة القواعد التي تعبر عن سلسلة محددة من العمليات أو عدد من الخطوات الحسابية، تتطلب جهازا قادرا على القيام بها.
ولذلك ظهرت إثر اختراع الحاسوب، لغة البرمجة ألغول (Algol) وهي إحدى اللغات التي كان لها تأثير كبير على تطور علم الحوسبة وتعتمد على الألمانية في كتابتها وعلى الإنتاج العلمي للخوارزمي في أصلها. وقد تم تطويرها في أوائل الخمسينات من قبل مجموعة من الخبراء في الرياضيات والحوسبة، وكان الهدف منها توحيد مفاهيم برمجة الحاسوب وجعلها أكثر قابلية للفهم والتنفيذ.
تميزت ألغول بأنها من أوائل اللغات التي قدمت العديد من المفاهيم والأساليب الحديثة في برمجة الحاسوب، مثل البنية التسلسلية والهيكلية للبرمجة، واستخدام الكتل والإجراءات والوظائف، ومفهوم المتغيرات بأنواعها المختلفة. استخدمت ألغول في البداية في الأبحاث الأكاديمية وفي تطوير البرمجيات الكبيرة والمعقدة في المؤسسات العلمية والصناعية. وكان لها تأثير كبير في تطوير اللغات البرمجية اللاحقة، مثل Pascal وC وJava، والتي كانت بدورها أساسا لتطوير عدة لغات برمجية بالإنجليزية وفي مقدمتها لغة Python، وهي لغة برمجة، عالية المستوى سهلة التعلم مفتوحة المصدر وقابلة للتوسيع، وهو ما ساعد على تطوير برامج تعتبر اليوم عصب حياة الشركات التكنولوجية الرائدة والعابرة للقارات، وهي في معظمها أمريكية تشكل أذرع لوبي وادي السيليكون، على غرار آبل، وأمازون، وهيوليت باكارد، ومايكروسوفت، وآي بي آم، وديل، وإنتل، وغوغل، وفيسبوك.
وهكذا، أصبحت مهارات البرمجة أساسية للنجاح في العمل والتصنيع والابتكار في كل المجالات تقريبا، وفي مقدمتها مجال البرمجة وتكنولوجيا المعلومات. ولذلك فإنه بتطوير لغات البرمجة باللغة العربية، يمكن لأمة الإسلام دخول هذا العالم من بابه الكبير لا لمجرد المساهمة العلمية فيه وإنما لاكتساحه بقوة وإحداث ثورة رقمية حقيقية بإذن الله. فتطوير لغات البرمجة بالعربية سيعزز بدوره الهوية الثقافية لكل الشعوب العربية والإسلامية، ويسهم في الحفاظ على التراث الثقافي واللغوي ورقمنته، بالتوازي مع حرص الدولة الإسلامية على مراعاة إتقان اللغة العربية في سائر مواد الدراسة المدرسية والعالية وفي مختلف الفروع والاختصاصات، لتكون لغة التخاطب ووعاء الفكر عند جميع رعايا الدولة، كما نص على ذلك كتاب (أسس التعليم المنهجي في دولة الخلافة) لحزب التحرير.
ولن يكون الأمر صعبا كما يتوهم بعض الناس اليوم، بل ستكون لغات البرمجة باللغة العربية أسهل للمبتدئين في تعلم البرمجة، حيث يمكن أن تُسهّل استيعاب المفاهيم البرمجية عندما تُقدم بلغة الأم على غرار ما تفعله تركيا العلمانية اليوم من تطوير للبرمجة باللغة التركية. فالقضية كلها متعلقة بالإرادة السياسية لا غير.
ثم إن تطوير لغات البرمجة باللغة العربية، يمكن كفاءات الأمة من المساهمة في تطوير التقنيات الحديثة مثل ما يُعرف بـ"الذكاء الصناعي" وفروعه والتحليلات الضخمة وتكنولوجيا المعلومات، فتنتشر اللغة بانتشار البرامج وازدياد الحاجة إليها والعكس صحيح، بل يُعدّ هذا التطوير استكمالاً للإرث العلمي والتقني الذي بدأه الخوارزمي في عهد الدولة العباسية واستلهاما من تاريخنا الإسلامي العريق، وهذا كلّه من شأنه أن يُسهم في تحقيق رؤية مستقبلية للتقدم التقني في دولة الخلافة الراشدة التي ستجند الطاقات والكفاءات لإنهاء عهد التغول الرقمي والسياسات الانتقائية للشركات المحتكرة المحاربة للإسلام خاصة في مجال التواصل الإلكتروني، لأن الخوارزمية لا تواجه إلا بخوارزمية في تكنولوجيا المعلومات.
من جهة أخرى، فإن البرمجة باللغة العربية سيكون لها دور أساسي في إنشاء برامج "تصميم" و"محاكاة متعددة الفيزياء" باللغة العربية، بحيث تستعمل هذه البرامج ابتداء في صناعة الآلات والمحركات خاصة وأن هذا النوع من الصناعة أولوية قصوى، كما نص على ذلك كتاب (سياسة التصنيع وبناء الدولة صناعياً من وجهة نظر الإسلام)، لأمير حزب التحرير المهندس عطاء أبو الرشتة حفظه الله.
والخطوة الأولى العاجلة في التصنيع تبدأ باعتماد الهندسة العكسية، ولكن تمام الاستقلالية عن الشرق والغرب يقتضي أن تكون برامج التصميم والمحاكاة باللغة العربية، وبهذا تكون البلاد الإسلامية بلادا صناعية لا تحتاج في صناعتها إلى الغير، بحيث يكون لديها المواد الأولية والآلات والأدوات والبرامج اللازمة للصناعات الثقيلة ابتداء، ثم لسائر الصناعات، وتكون البرمجة باللغة العربية سببا في ثورة رقمية وصناعية ثم في إشعاع دولي وتمكين عالمي لدولة الخلافة التي تسعى إلى قيادة الناس فكريا وحمل دعوة الإسلام رسالة رحمة للعالمين لا إلى امتصاص دماء الشعوب ونهب ثرواتهم، كما يفعل الغرب الرأسمالي بقيادة أمريكا.
خاتمة
هذه الفكرة بما تُفضي إليه من صيرورة تاريخية عند تفاعل الأمة مع إرثها التشريعي والحضاري تفاعلا طبيعيا واعيا دون حقن تخدير، دفعت جون شيا الصحفي الأمريكي البارز، ورئيس تحرير مجلة American Reporter ليكتب مقالته
الشهيرة بعنوان: "الحرب ضدَّ الخلافة"، والتي تضمَّنت رسالة موجهة إلى الرَّئيس أوباما دعاه فيها من باب النصح إلى المصالحة مع "دولة الخلافة الخامسة"، فجاء فيها:
"الحقيقة الجليَّة هي أنَّه لا يستطيع أي جيش في العالم، ولا أيَّة قوَّة عسكريَّة - مهما بلغت درجة تسليحها - أن تهزم "فكرة". يجب أن نقرَّ بأنَّنا لا نستطيع أن نحرق قادة هذه الفِكْرة في كلّ بلاد الشَّرق الأوسط، ولا أن نحرق كتُبَها، أو ننشر أسرارها، ذلك لأنَّ هناك إجماعاً بين المسلمين على هذه الفكرة". ولذلك أضاف قائلا: "سيدي الرَّئيس: إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم، ولا بدَّ أن نضعَ حدّاً لهذا الصراع، وليس أمامنا إلاَّ أن ندخل في مفاوضات سلام مع الإسلام".
نعم، الإيمان بالفكرة الإسلامية (بلغتها العربية) له حلاوة روحية نفسية قلبية، تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدم في العروق، فتملأ القلب بالأنوار والأمان والسكينة والطمأنينة، على النقيض من حالة الفزع والهلع التي يعيشها الغرب المتوحش اليوم، والذي لن يقدر بكل أموال الدنيا أن يعيد الثقة إلى مبدئه وأن يرأب الشرخ والتصدع الحاصل في نظامه. ولذلك لن تقدر قوة على وجه الأرض أن تقف أمام فكرة آن أوانها، وعد بها الرحمن وبشر بها المصطفى العدنان. أوليس حريّا بنا إذن ألاّ ندّخر جهدا في سبيل استعادة هيبة لغة القرآن وبخاصة لمن يعمل على استعادة سلطان الإسلام؟
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس