الثلاثاء، 04 رمضان 1446هـ| 2025/03/04م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أوروبا بين الإهانة والانهيار

 

لقد لفت نظر العالم التغيير غير المبرر بالنسبة للأوروبيين، لسياسة الولايات المتحدة تجاه القضية الأوكرانية وخاصة بعد تحدث المبعوث الأمريكي الخاص إلى أوكرانيا كيث كيلوغ أمام مؤتمر ميونخ الأخير عن عدم ضرورة إشراك أوروبا في المفاوضات المنوي إجراؤها لإيجاد تسوية سلمية للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.

 

ومن وضوح سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نجد أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا أصبحت فوق الطاولة دون أي مجاملة لأحد، وقد بدا ذلك بعد لقاء الرياض بين وزيري خارجية البلدين تمهيدا للقاء القمة بين الرئيسين وهذا ما أثار الرعب في أوروبا؛ حيث سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعقد اجتماع عاجل في باريس مع رؤساء حكومات كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وبولندا وإسبانيا وهولندا والدنمارك ورئيس المجلس الأوروبي أنطوان نيو كوستا ورئيسة المفوضية الأوروبية أوروسولا فون ديرلاين وأمين عام حلف الناتو مارك روته.

 

وقد عبر الرؤساء أنهم ملزمون اليوم بالرد على هذه الإهانة واتخاذ موقف موحد ضد ما يهدد أمن القارة الأوروبية، حيث إن نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس هاجم الأوروبيين متهما إياهم بفرض قيود على حرية التعبير وهذا ما لم يقبله المستشار الألماني أولاف شولتس حيث اعتبره تدخلا في الشؤون الداخلية الألمانية وكذلك تدخل إيلون ماسك مسؤول وزارة الكفاية الحكومية الأمريكية عندما دعا الناخبين الألمان إلى تأييد حزب (البديل من أجل ألمانيا( اليميني المتطرف في الانتخابات التي جرت في 13 شباط الجاري.

 

ويضاف إلى ذلك كله الحرب التجارية التي توشك على الاندلاع بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، حيث تعتبر العلاقات التجارية بينهما الأكثر تشابكا وأهمية على مستوى العالم حيث وصل إجمالي التبادل إلى 976 مليار دولار في 2024.

 

وبحسب تقرير البرلمان الأوروبي فإنه إذا فرضت أمريكا رسوما جمركية على منتجات الشركات الأوروبية فإن هذه المنتجات ستصبح أكثر تكلفة وستقل مبيعاتها. وإذا رد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأمريكية فإن هذه المنتجات ستصبح أكثر تكلفة بالنسبة للمستهلكين في داخل الاتحاد. وهذا كله قد يؤدي إلى تعطيل سلسلة التوريد للعديد من شركات الاتحاد الأوروبي، ويضاف لذلك التخوف الأوروبي من عدم التزام أمريكا المشاركة في المنظمات الدولية مثل حلف الناتو وذلك من باب تعزيز التفوق الأمريكي على خصوم أمريكا مثل الصين.

 

وجميع هذه التخوفات جعلت رؤساء الدول الأوروبية يطلقون تصريحات تدل على قوة أوروبا ولكنها لم تتعد التصريحات، وفي طيات هذه التصريحات تقرأ الضعف الأوروبي.

 

فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوروبا إلى الاستيقاظ وقال "إنه ينبغي زيادة الإنفاق على الدفاع لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية". وتساءل ماكرون قائلا "ماذا سنفعل في أوروبا إذا سحب حليفنا الأمريكي سفنه الحربية من البحر المتوسط غدا؟ ماذا لو سحبوا طائراتهم الحربية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي؟"

 

أما المستشار الألماني أولاف شولتس على منصة إكس فقال "نحن في الاتحاد الأوروبي بأكثر من 400 مليون شخص في 27 دولة نشكل مجتمعا قويا".

 

وقال الرئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز "نحن قلقون من إمكانية بث الرسائل التي تؤثر على ملايين الأشخاص عبر شبكات التواصل الاجتماعي".

 

أما رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان فقال "إن رئاسة ترامب من شأنها أن تؤدي إلى تعزيز الجناح اليميني في أوروبا".

وطبعا زيادة النفوذ اليميني تزيد من الاضطرابات السياسية وصنع القرار في أوروبا.

 

ولا نعلم إلى أي مدى قد يؤثر عدم استقرار حكومات الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي أمثال ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وتوصلهم إلى حلول قد تبقي على الاتحاد الأوروبي قائما، وهل سوف تقدم هذه الدول مقاربات معينة لأمريكا تساهم في عبور هذه الأزمة؟ على سبيل المثال:

 

  • أن تقدم أمريكا ضمانات أمنية لأوكرانيا كبديل لدخولها في حلف الناتو ما يحفظ هيبة أوروبا وضمان أمن أوكرانيا
  • دخول كييف إلى الاتحاد الأوروبي مقابل التعهد بإعادة إعمار أوكرانيا على النفقة الأوروبية
  • إبقاء المساعدات العسكرية لأوكرانيا قائمه بدل إرسال جنود للقتال هناك
  • رفع مشاركات الدول الأوروبية في حلف الناتو من 2 إلى 3% من الدخل القومي.

ورغم أن هذه المقاربات لم تطرح مجتمعة وإنما لمح لبعضها فإنها لا تعتبر حلا بل سوف تبقى عاملا ضاغطا على وجود الاتحاد الأوروبي.

 

إن سياسة ترامب الجديدة تنم عن انقسام في صناعة القرار الأمريكي وقد يحدث فيها تغير قريب وليس ببعيد، وإذا لم يحدث فإنها تساهم بشكل كبير في إرهاق قوة الاتحاد الأوروبي ما يؤدي إلى تضعضعه، ومنها:

 

■ ضغط ترامب على أوروبا عبر حلف الناتو إما بدفع التزامات أكبر مع تخفيض كبير لالتزامات أمريكا أو إنهاء حلف الناتو، وهذا مستبعد، فهذا يجعل أوروبا أمام تحديات كبيرة.

■ الحرب التجارية التي يفرضها ترامب فهو يضغط على اقتصاديات الاتحاد بشكل عام وعلى اليورو تحديدا.

■ سياسة ترامب الداعمة لليمين الأوروبي أمثال فيكتور أوربان ومارين لوبان... وغيرهما.

 

لذلك فإن وجود ترامب وسياسته معادية للاتحاد الأوروبي بشكل كبير جدا.

 

أما عن فرضية انهيار الاتحاد الأوروبي فهي قد تكون مستبعدة في حال إبداء دول الاتحاد تعاونا كبيرا على جميع المستويات وهذا أيضا مستبعد. ومن ناحية أخرى فإن انهيار الاتحاد الأوروبي ليس مستبعدا تماما مع زيادة الأزمات والضغط المتزايد وقد يصل بهم إلى نقطة اللاعودة وذلك يعود إلى أسباب قد تسرع في انهيار الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر يوما ما نموذجا ناجحا للوحدة الاقتصادية في أوروبا، ومن هذه الأسباب:

 

عدم استقرار الحكومات الأوروبية:

 

فجميع دول الاتحاد الأوروبي الكبرى تعيش اليوم انتخابات ومنافسات شديدة من اليمين المتطرف؛ ففي ألمانيا فإن الحكومة التي أطلق عليها اسم (إشارة المرور) والتي تشكلت بعد انتخابات 2021 وتتألف من ثلاثة أحزاب؛ الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر الذي انسحب بالفعل من الحكومة بعد رفض التصديق على الميزانية في البرلمان، واليوم ألمانيا تنتظر انتخابات مبكرة وهي لم تحدث في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.

 

وأيضا في فرنسا فإن الرئيس الفرنسي خسر انتخابات البرلمان الأوروبي وبعدها خسر الأغلبية البرلمانية وهو ما أدى إلى سحب الثقة من الحكومة الفرنسية السابقة برئاسة ميشيل بارنيه، وهذا أيضا لم يحصل منذ عام 1962.

 

وزيادة نفوذ اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي وفي الانتخابات الوطنية الأوروبية فكانت أغلبية الأحزاب فيها يمينية، وجميع الأحزاب اليمينية في أوروبا التي وصلت منها إلى السلطة أو التي عززت موقعها في صفوف المعارضة تعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي ولمشاكله الاقتصادية.

 

الفجوات السياسية في الجبهة الأوروبية:

 

فأغلب العواصم الأوروبية لها آراء متباينة تجاه الحرب في أوكرانيا وظهر خلاف قوي بين أوكرانيا وبعض الدول الأوروبية معترضين على سياسة رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي ومنهم من يؤيد ضرورة إيقاف الحرب كرئيس الوزراء المجري، والحقيقة أن أغلب دول الاتحاد تتمنى وقف الحرب الروسية الأوكرانية لأنها أدت إلى مشاكل سياسية واقتصادية ولكن مع ضمانات لأمن أوروبا وهذا قد لا يتحقق.

 

خسائر وأزمات مالية:

 

تم تأسيس النموذج الألماني على ثلاثية اعتمدت: الشراكة الأمنية مع أمريكا وحمايتها لدول أوروبا، والشراكة الاقتصادية مع الصين، وانخفاض سعر الطاقة الروسية.

 

وللأسف هذا كله تبدل بعد الحرب الأوكرانية عام 2022م

 

وأضيفت إليها أخطار أخرى متعددة من أهمها العلاقات التجارية الدولية وفرض الضرائب وخاصة اليوم مع سياسة ترامب الجديدة. والاتحاد يرى أن الصين وأمريكا لا تلتزمان بقواعد التجارة الدولية.

 

وبالإضافة لذلك مطالب ترامب برفع مستوى الإنفاق العسكري في ميزانية حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى نسبة 5% من الدخل القومي لكل دولة، وهذا قد يؤدي إلى رفع مستوى التوتر إلى مراحل الطلاق.

 

لذلك يعتبر الاتحاد الأوروبي اقتصاديا معرضا إلى خطر بدون المزيد من الأموال والديون المشتركة حيث دعا رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي الاتحاد الأوروبي إلى استثمار ما يصل إلى 800 مليار يورو إضافية سنويا والالتزام بالإصدار المنتظم للسندات المشتركة لجعل الكتلة أكثر قدرة على المنافسة مع الصين والولايات المتحدة.

 

وقال دراغي إن أوروبا ستحتاج إلى تعزيز الاستثمارات بنحو خمس نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي للكتلة وهو مستوى لم تشهده منذ 50 عاما من أجل تحويل اقتصادها حتى تتمكن من البقاء قادرة على المنافسة.

 

ملف الهجرة أساسي لانقسام الاتحاد الأوروبي: حيث إن ملف الهجرة أحد أكثر الملفات تعقيدا وإثارة للجدل في الاتحاد الأوروبي حيث تختلف أولويات الدول الأعضاء بشأن كيفية التعامل مع الهجرة؛ فتركز بعض الدول على منع الهجرة غير الشرعية، بينما تفضل دول أخرى التركيز على الاندماج المجتمعي للمهاجرين، وهذا أكثر الملفات استغلالا من الأحزاب الشعبوية لتعزيز أجنداتها المناهضة للهجرة، وهذا يهدد الديمقراطية التي يدعونها.


فجوات متزايدة الاتساع:

 

وبذلك تقترب أوروبا أكثر فأكثر من حافة الهاوية وتتلاشى بسرعة افتراضيات الماضي المريح وخاصة مع غياب الثروات التي تأتي من الاستعمار القديم ومن مشاكل الطاقة المتزايدة والمتفاقمة وخاصة مع زيادة التهديد الروسي وزيادة الإنفاق الدفاعي لتحديث الجيوش الضامرة وإنشائها من جديد والضغط على المالية العامة وكل هذا يعمق الشعور بالقلق.

 

فأوروبا اليوم تعيش أجواء بيئة أمنية مهددة سكانية جاثمة ونقص في العمالة مع رفض المهاجرين وقضايا أخرى كثيرة.

 

وبذلك يعتبر انهيار مشروع الاتحاد الأوروبي أحد أكثر الأحداث كارثية في التاريخ الحديث مع أن الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه عام 1993 حمل في طياته تحديات صراعات داخلية وخارجية ولكن اليوم يعاني من فقدانه للقرار السيادي فإذا أراد أن يقيم إصلاحات تعيده إلى بوابات النجاح فعليه بخطوات سريعة للإصلاح السياسي والأمني والاقتصادي للاتحاد وأن يحاول استعادة فرصته في الوجود في الساحة الدولية، وهو يستطيع أن يلعب دور وساطة في كثير من القضايا الشائكة ولكن بشرط وحيد هو الاستقلالية في قراره بعيدا عن الولايات المتحدة وهذا أعتقد أنه في أيامنا الحالية صعب المنال إن لم تأت حكومات جادة وقادرة على فرض رأيها وخوض الحروب لأجل ذلك.

 

إن التغيرات السياسية التي تمر على العالم اليوم لم يمر مشابه لها مطلقا، فنحن في مرحلة تغير نظام دولي قائم مهترئ وقدوم نظام دولي جديد ينهي السيطرة الأمريكية على دول العالم وينهي جشع الرأسمالية وتغولها على قوت الناس وعيشهم.

 

إن مرحلة التغيير اليوم تتطلب من جميع الأطراف على مستوى العالم العمل للتخلص من هذا النظام العالمي الجاثم على صدور الدول ويتحكم بها كما تريد الدولة الوحيدة التي تتربع في عرش الموقف الدولي ولا يوجد أحد غيرها لأنها تقترح وتفرض وتنفذ في آن واحد دون حسيب ولا رقيب، وهذا ما أودى بالعالم إلى حاله اليوم.

 

فيجب على جميع مفكري العالم وحكامه المخلصين أن يعملوا ضد هذه الدولة لنتخلص من جبروتها وتحكمها في قرارات كل دول العالم ومخالفتها للنظام الدولي الذي وضعته بنفسها، إذا خالف مصالحها.

 

وباعتبار أننا نبحث عن مبدأ بديل يسقط هذا المبدأ الرأسمالي المتسلط فحتما لن يكون الكلام إلا على مبدأ الإسلام لأنه هو الوحيد القادر على خلع المبدأ الرأسمالي من العالم.

 

فيا أيها المسلمون في كل مكان، إن ديننا هو الوحيد الذي يحمل في طياته ترياق النجاة من سموم الرأسمالية فغذوا السير مع العاملين واعملوا ليلا ونهارا حتى نعيد لهذا الدين مركزه وموقعه بين دول العالم ونعيد للإسلام والمسلمين عزهم ونرضي الله سبحانه ونخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

 

قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

نبيل عبد الكريم

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع