الإثنين، 06 ربيع الأول 1446هـ| 2024/09/09م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

هل باتت المنظمات الدولية والحكومية مهددة بالتفكك؟

 


تضع الدول المبدئية أفكارها وتصوراتها ومفاهيمها حتى تصبح قوانين وأنظمة، فلا تكتفي بكون هذا المبدأ وما ينبثق عنه من قوانين وقواعد أساسية بأن يكون في داخل الدولة، بل ربما تعدى ذلك من الداخل إلى الخارج بحسب قوة الدولة المبدئية تلك، فالدول بحسب ما تملك من قوة تفرض قوانينها وأفكارها بما يحقق مصلحتها، وهذا السير طبيعي في حركة الدول والشعوب والأمم المبدئية، فمثلاً، دولة الخلافة لأزيد من عشرة قرون كانت الدولة الأولى في العالم ولم يكن لها منافس حقيقي يستطيع أن يكون نداً لها، وحتى في بعض أوقات تعثرها كانت هذه الأوقات لا تطول، فربما انتصر عليها عدوها في معركة ولكن الانتصار في الحرب في النهاية يكون لها، وكانت تفرض قوانينها في البر والبحر.


وبقي حال النظام العالمي تتفوق فيه دولة الخلافة حتى تمكن الكفار المستعمرون من وضع يدهم على الدولة الإسلامية، فقطعوها وبسطوا عليها قوانينهم وأنظمتهم، وكان النظام الدولي قُبيل هدم الخلافة بيد فرنسا وبريطانيا، أو إننا نستطيع أن نقول كانت هما الدولتين البارزتين في الموقف الدولي وإن كان لا يمنع وجود دول قوية مثل روسيا وأمريكا.


وبقي الحال هكذا حتى بدا لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أن تعيد رسم النظام الدولي برمته، وأن تتوسل في سبيل ذلك بمنظمات وهيئات دولية، وهي في حقيقتها مؤسسات أمريكية ولا حظ لوصفها دولية في تغيير المعنى الحقيقي لها فهي مؤسسات تكاد تكون أمريكية بامتياز، فتم تأسيس البنك وصندوق النقد الدوليين بُعيد الحرب العالمية الثانية وبروز أمريكا قوة عظمى وحيدة في العالم سيما بعد معاهدة "بريتون وودز" التي كانت مقدمة لصياغة نظام دولي تقوده أمريكا.


ثم بعد سنتين أخذت أمريكا على عاتقها إعادة بناء ما دمرته الحرب في أوروبا بما يسمى "مشروع مارشال" والذي هو في حقيقته تغول للشركات الأمريكية في القارة الأوروبية، وإعطاؤها الامتيازات الخاصة في إعادة الإعمار، ثم بعد ذلك بسنتين أيضاً تم تأسيس منظمة الناتو.


فكانت هذه السنوات الخمس بحق هي بداية انطلاق أمريكا في العالم مالياً واقتصادياً وعسكرياً، وكان النظام الدولي بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي قد تشكل بحلته الجديدة، وليس مصادفة أن أمريكا بعد هذا التأسيس انطلقت في العالم انطلاق الثور في الحلبة الإسبانية، ففي سوريا انقلاب عسكري يقوده حسني الزعيم، وفي مصر انقلاب يقوده عبد الناصر، ثم في العراق انقلاب على عملاء الإنجليز ثم في إيران تتخلص من شاه الإنجليز وتأتي بخمينيها وبعدها تحتل أفغانستان والعراق. وكانت تستعين في أعمالها بالمنظمات التي سبق أنها ساهمت في تأسيسها ورعايتها الاقتصادية، ممثلة بالصندوق والبنك الدوليين ذراعها الاقتصادي، وفي المجال العسكري تمتطي الناتو والأمم المتحدة ومجلس الأمن لتحقيق مآربها العسكرية، وإلا فإنها تذهب منفردة ليتحقق لها ما تريد. فكانت كل المنظمات والهيئات الدولية والعسكرية والمالية هيئات ومنظمات أمريكية، أو للدقة كانت لأمريكا اليد الطولى في قراراتها وأنظمتها.


ولكن أمريكا قد بدأت تتراجع بعد ضربات كبيرة تلقتها، ففي الأمر العسكري خسرت التريليونات جراء حروب خاسرة في العراق وأفغانستان ولم ترجع منهما إلا بخفي حُنين وكان إخفاقها فيهما واضحاً، وفي المجال المالي والاقتصادي أصبح اقتصادها مترنحاً بعد أزمة الرهن العقاري، والتي ما زالت آثارها للآن.


وأمام هذه الضربات المتلاحقة أصبحت تلقي باللائمة على أيٍّ كان، فتارة تتحدث بالخلل في الميزان التجاري بينها وبين الصين وأوروبا، وبالتالي تهدد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية التي أسستها هي قبل عقدين ونصف العقد ووضعت قوانينها وفصلتها على مقاسها وأشركت بها ما يزيد على 150 دولة، بل تتهم المنظمة بأنها تحابي الصين في قوانينها، وتارة تهدد بتقليص الأموال التي تدفعها لحلف شمال الأطلسي بحجة أن أوروبا لا تدفع من ناتجها المحلي للناتو إلا القليل، وبالرغم من أن دولاً في غرب أوروبا زادت من النسبة التي تدفعها للمساهمة في ميزانية الناتو إلا أن أمريكا ما زالت غير راضية عن الطريقة التي يدار بها حلف الأطلسي.


ثم قبل أيام قلائل فتحت النار على منظمة الصحة العالمية فاتهمتها بتهمتها نفسها لمنظمة التجارة بأنها أي (الصحة العالمية) تُحابي الصين في قوانينها وأعلنت انسحابها منها، وأخيراً وربما ليس آخراً فإن ترامب تحدث باستهزاء عن كبار الدول المصنعة السبع (G7)، حيث قال بأنها دول عفا عليها الزمان، وهو يرغب بإشراك دول كانت تصنف ضمن الدول صاحبة الاقتصادات الناشئة، مثل: الهند وكوريا الجنوبية، وأيضاً يرغب بإشراك روسيا التي يعلم أن الدول الأوروبية لا تقبل بروسيا في مجموعة الـG7 وبخاصة بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم.


إن انقلاب أمريكا على الهيئات والمنظمات الدولية التي كانت تدير العالم بل تجبره على الالتزام بقوانينها من مثل منظمة الصحة العالمية التي انسحبت منها أو منظمة التجارة العالمية التي تتهمها أمريكا بمحاباة الصين وحتى الناتو الذي أسسته بيدها، إن كل ذلك مؤذن بتفكك هذه المؤسسات والهيئات التي جثمت على الصدور واستعمرت الشعوب لعقود خلت، وإن هذا التفكيك الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق ويقوده الأحمق ترامب ربما يكون مقدمة لصياغة عالم جديد وبعلاقات دولية جديدة، وإن ما يحصل في أمريكا الآن من اضطرابات أفقدها صوابها فلم تعد تدري ما تفعل وترامبها الأحمق مرة يلقي باللائمة على منافسيه من الديمقراطيين ومرة يريد تعديل القوانين الداخلية ومرات يلقي باللوم على المنظمات والهيئات الدولية ويريد تعديل قوانين العالم ويخبط هو وحزبه خبط عشواء، ولا أظن أن تفلح أمريكا في إعادة صياغته ووضع قوانينه كما سبق لها وفعلت، فالاتحاد الأوروبي كان اتحاداً نصرانياً بامتياز وكانت أمريكا تقف وراءه بل وتدافع عنه بصفته اتحاداً وكانت بريطانيا جزءاً منه، ثم خرج علينا الأحمق ترامب ليعلن خلال استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد بأنه يفضل التعامل مع الدول الأوروبية بصفتها الفردية، فهو يعلن وبصراحة أنه مع تفكيك الاتحاد ويدعو الدول الأوروبية للخروج منه على غرار ما فعلت بريطانيا.


إن أي فراغ تُحدثه أمريكا أو يحدث طبيعياً، لن تملأه إلا دولة ليست من جنس قوانين وأنظمة الرأسمالية، فالنظام المالي والاقتصادي الذي صاغ الدنيا على مقاسه لعقود وعقود أصبح مستهلكاً.


فالحرية الاقتصادية التي عمادها (اتركه يمشي، دعه يمر) والتي هي عماد الحرية في نظام رأس المال قد ثبت إخفاقها، فالدول وعلى رأسها أمريكا تتدخل في الأسواق وتُسيرها، وإن النظرية التي تتوق (مدرسة شيكاغو) العمل على تطبيقها أو ما يسمى نظرية (النيو ليبرالية) التي جاءت انقلاباً على مدرسة كِنز بل على النقيض منها التي تمنع التدخل في الأسواق، قد ثبت إخفاقها وأصبحت نظرية من الماضي على الأقل من الناحية العملية، فإن الدولة لا بد لها من التدخل في سير الاقتصاد وضبط إيقاعاته وإلا فإن الدول ستتحول إلى دول فاشلة بعد أن يأكل الغني فيها الفقير.


وخلاصة القول، إن المبدأ الرأسمالي الذي تقف أمريكا على قمة هرمه لم يعد بالإمكان تعاهده والذود عنه، فقد أكل عليه الدهر وشرب، وإن نظاماً جديداً، وحصراً هو الإسلام ونظامه، هو القادر على حل كل المشاكل، الإسلام الذي يعترف بالملكيات الثلاث؛ ملكية للفرد وملكية للدولة وملكية توزع على كل من يحمل تابعية الدولة أو ما يُسمى بالملكية العامة، وبغير هذه الثلاث سيبقى الاقتصاد ونظريات توزيع المال بل والنظام الرأسمالي برمته عرضة للهزات التي لا فكاك منها، وإن نظريات السوق القديمة منها والحديثة لم تعد تفلح في ترميم الاقتصاد الرأسمالي، ولا يكون علاج مشكلة العالم إلا بدولة جديدة تحمل مبدأ جديداً، وليست إلا دولة الخلافة، هي القادرة على وضع القوانين التي تسعد البشرية وتنقذ ما يمكن إنقاذه من فساد القوانين والأنظمة الرأسمالية وتعيد صياغة العالم بعد أن تُري الدنيا عدل الإسلام ورقي أنظمته، فتفتح ذراعيها لاستقباله مشعل نور ومنارة خير.

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع