- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تجريم "التطبيع" في تونس، حملة انتخابية متواطئة مع الصهيونية
قامت سردية وصول قيس سعيد إلى الحكم على فكرة أساسية، هي اعتبار قضية فلسطين قضية محورية تحظى بأولوية مطلقة ضمن اهتمامات الرئيس، الذي لم يمنعه ركوب موجة الثورة بشكل متأخر، من التمسح بها وبشهدائها ومن معانقة واحتضان جرحاها واستحضار أهم تواريخها وأحداثها والمبالغة في الدفاع الكلامي عن أهدافها، محاولا الحفاظ على عادة زيارة "سيدي بوزيد" سنويا، لرمزيتها في إطلاق شرارة الثورة.
سردية "العلوّ الشاهق" هذه، اقتضت أن يجد الأستاذ قيس سعيد نفسه أمام مرشح متورط - حسب ما نشرته وسائل الإعلام آنذاك - في التخابر مع ضابط سابق في جيش كيان يهود (يدعى آري بن مناشي)، بل في التعاقد معه لدعمه كمرشح في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التونسية سنة 2019.
وهكذا، سارع المشاركون في الانتخابات إلى إنقاذ البلاد من مرشح الصهيونية (نبيل القروي) ليجد قيس سعيد الطريق أمامه مفتوحا إلى قصر قرطاج، بعد أن جعل من قضية فلسطين جزءاً لا يتجزأ من حملته الانتخابية واشتهر في الداخل والخارج بمقولته الشهيرة: "التطبيع خيانة عظمى". يومها صدع حزب التحرير بالقول إن قيس سعيد هو الوجه المزين للنظام.
ثم لم تكد تخلو مناسبة وطنية إلا ويستحضر فيها الرئيس فلسطين، وأهمية فلسطين بالنسبة إليه، حتى يكاد المتابع يجزم أنه من سيقود معركة تحريرها! ولكن ماذا فعل الرئيس مع أول اختبار عملي لكل هذه الشعارات الانتخابية التي لا يزال ينفق من رصيدها المتآكل إلى اليوم طمعا في المرور والبقاء؟!
الجواب ظهر بوضوح في موقفين:
الأول مساء استهداف مستشفى المعمداني في غزة، حيث جمع مجلس أمنه القومي، ولكن بدل توجيه خطابه إلى الجيش الذي يقوده وإلى بقية جيوش المنطقة، ليذكرها بواجبها في الذود عن الأرض والعرض والتحرك نحو نصرة غزة (لا سمح الله)، سارع إلى جعل دماء مئات الأبرياء من أهل غزة، حبرا لصياغة خطاب حماسي يضع السم في الدسم، ويمرر حل الدولة الفلسطينية الهزيلة وعاصمتها شرقي القدس، وهو الحل الذي تنادي به قوى الكفر وعلى رأسها أمريكا. بل راح يشيد بمنظمة التحرير الفلسطينية التي صدعت رؤوسنا بالشعارات الفارغة، مع أنها الأداة الأولى في تصفية قضية فلسطين وإلى الأبد، ويتغنى بالكلمة الأمينة التي تعبر عن الطلقة الشجاعة، مع أننا لم نر جيشا ولا طلقة ولا حتى أمانة في الكلام، بل رأينا كيف حول النظام في تونس أبناء الجيش إلى حرس وعسس على الحدود الاستعمارية والشركات البترولية الأجنبية، وأحيانا على مصبات النفايات المنزلية، على وقع صيحات تعلو من قصر قرطاج بين الحين والآخر، تدق حرب التحرير الوطني ضد من يريدون تفجير الدولة من الداخل. وأي دولة هذه الذي تسوم الناس سوء العذاب وتقتات على موائد القروض الربوية، وتقمع شبعها إذا طالب بأبسط حقوقه على غرار ما حدث في عقارب أو في جرجيس.
أما الموقف الثاني، فهو السقوط السياسي والأخلاقي المدوي، في علاقته بمشروع قانون تجريم التطبيع، تزامنا مع تزايد الهجمات الصهيونية الدموية على قطاع غزة، حيث كنا نعتقد أن تمرير هذا القانون هو مجرد شكليات لحفظ ماء الوجه واستكمال المتاجرة بقضية فلسطين تمهيدا لانتخابات 2024، وظننا بعد النقاشات المطولة داخل البرلمان أن الجبل إذا تمخض فإنه سيلد فأرا، ولكن فوجئ الشعب بسحب قانون تجريم التطبيع بالطريقة نفسها التي حدثت أيام "العشرية السوداء"، وبعجز البرلمان المتمسح بالثورة كذلك عن تمريره، تحت ذريعة الخوف من الإضرار بالمصالح الخارجية لتونس! ليؤكد رئيس البرلمان نقلا عن رئيس الدولة بأن الأمر يتعلق بخانة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وأن مسألة "تجريم التطبيع" اتخذت طابعا انتخابيا لا أكثر ولا أقل!
وبعبارة أوضح، فإن رئيس الدولة أوكل إلى رئيس مجلس نواب الشعب مهمة نيابته في إيصال الفكرة إلى الشعب، ليقول لهم إن مسألة "تجريم التطبيع" هي مجرد حملة انتخابية في لحظة نضال ثوري مزيّف لكسب الأصوات لا أكثر ولا أقل، ولسان حاله يقول: هل انتظرتم أن نجرم التطبيع فعلا وأن نعادي كيان يهود علنا، وأنظمتنا ما أنشئت إلا من أجل حراسة هذا الكيان وحماية مصالحه ومنع وحدة الأمة وجهادها لتحرير فلسطين؟!
بهذه المواقف المخزية المتنكرة لأهل فلسطين، تسقط ورقة التوت عن نظام العمالة في تونس، كما سقطت في عيون الناس كل الأنظمة التي تشارك كيان يهود جرائمه بصمتها وتواطؤها وخذلانها عن نصرة إخوانها في غزة، على غرار مصر وسوريا، لتشكل جميعها قبة حديدية تحمي "الصهيونية" وتكرس الحدود الاستعمارية، وتعيد الذاكرة بشعوب الأمة إلى سبب البليّة، وهو سقوط دولة الخلافة العثمانية على أيدي مجرم العصر مصطفى كمال أبو العلمانية، مثلما تذكرهم بمقدمات ذلك من وعد بلفور إلى تطبيق اتفاقية سايكس-بيكو الاستعمارية، بما أفضى لاحقا إلى تغييب الإسلام وأحكامه عن قضية اعتبرت مجرد قضية فلسطينية، وفي مقدمة ذلك، أحكام الجهاد في سبيل الله تحت راية الإسلام لإزالة كيان يهود، فهذا هو السبيل الوحيد لمواجهة الصهاينة، لا بقوانين مستمدة من دستور متنكر للإسلام في التشريع...
وعليه، فإن الطلقة الوحيدة التي أطلقها الرئيس قيس سعيد، كانت صوب هذا النظام العلماني المتمسح بقضية فلسطين والمتاجر بها وبدماء شهدائها، أما غيرها من الطلقات ومن الصواريخ، فهي طلقات كلامية فارغة تكشف زيف الديمقراطية والوطنية، وتدق آخر مسمار في نعش هذه المنظومة العلمانية البالية، لتؤكد مرّة أخرى بما لا يدع مجالا للشك بأن قيس سعيد ليس سوى الوجه المزين للنظام الجمهوري العلماني في تونس، واستمرارا لبقائه خطرا جاثما على صدور المسلمين في تونس. هذا النظام الفاجر الذي أرعبته دعوات تحريك الجيوش، فلم يكتف بالجبن والتخاذل في نصرة غزة، بل أرسل أعوانه لاختطاف شباب حزب التحرير واعتقالهم ظلما وعدوانا وتنكيس راية رسول الله ﷺ، بدعوى واهية مضللة مفادها أنها راية حزبية! بل ليستأسد بعضهم على النساء والمشايخ في تظاهرات نصرة غزة، فيقوموا بافتكاك الرايات بالعنف، وفق منطق: أسد عليّ وفي الحروب نعامة!
أما تحرير فلسطين، فهو شرف لا يناله أمثال السيسي وبشار وكل من تقرب إليهم أو سار على نهجهم، فهؤلاء سيجرفهم طوفان الأمة قريبا بإذن الله، وإنما هو اصطفاء رباني لا يقدر عليه إلا رجال أولي بأس شديد، يجعلون كلمة الله هي العليا، ويتحقق على أيديهم وعد الله سبحانه بدخول المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرّة ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
ختاما، وبمناسبة حديث الرئيس عن متواطئين مع الحركة الصهيونية يهدفون إلى "إرباك الدولة" بعد مسرحية تهريب "الإرهابيين" من سجن المرناقية، نذكره بأنه لا يزال يحتفظ على موقع الرئاسة بفيديو زيارته إلى مركز إدارة العمليات في الضفة الشرقية من قناة السويس، والذي فوق تضمّنه لعلم كيان يهود، فإنه يضم عددا من بروتوكولات حكماء صهيون التي يستند إليها أول مؤتمر صهيوني يؤسس للدولة اليهودية إثر انعقاده في سويسرا سنة 1897، والتي يحرسها نظام السيسي ضمن حراسته العلنية لكيان يهود، وفي مقدمتها البروتوكول الثالث: (كل ما يسمى "حقوق البشر" لا وجود له إلا في المثل التي لا يمكن تطبيقها عملياً). وهذا كلّه وأكثر موثق بالفيديو ويراهن فقط على غفلة الأمّيّين (ويقصدون بها غير اليهود)، فهل هناك عاقل سيصدق بعدها أن من دخل إلى هذا المركز سيخرج مدافعا عن قضية فلسطين تحت راية الإسلام؟!
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس