- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مقاطعة انتخابات المجالس المحليّة في تونس
ونُذُر موجة ثانية من الثّورة
أغلقت مراكز الاقتراع في تونس مساء يوم الأحد 2024/02/04 أبوابها مع انتهاء عملية التصويت في الدور الثاني من انتخابات المجالس المحلية المخصصة لاختيار أعضاء الغرفة الثانية للبرلمان، بنسبة مشاركة ضعيفة بلغت 12.44%.
ولم تختلف نسبة المشاركة المتدنية كثيرا عن نسبة الإقبال خلال الدورة الأولى (بالكاد تجاوزت المشاركة 11% من جسم انتخابي يفوق 9 ملايين ناخب) لانتخابات المجالس المحلية التي ستفضي إلى اختيار مجالس جهوية ومجالس أقاليم وصولا إلى إرساء المجلس الوطني للأقاليم والجهات أو ما يعرف بالغرفة التشريعية الثانية. ومن المنتظر أن يقع تركيز المجلس الوطني للأقاليم والجهات أو الغرفة البرلمانية الثانية في أجل أقصاه الأسبوع الأول من نيسان/أبريل القادم، بحسب ما أكده للجزيرة نت الناطق الرسمي باسم هيئة الانتخابات محمد التليلي المنصري.
وقال معارضون في تونس إن تدنّي نسبة المشاركة في الدورة الثانية لانتخابات المجالس المحلية، هو نتيجة لتفرد الرئيس قيس سعيد بالحكم وضرب الحريات ومحاصرة الأحزاب وملاحقة المعارضين، في حين أرجع أنصار الرئيس سعيد هذا العزوف إلى تراجع ثقة الناخبين في الانتخابات للتصويت لفشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في تحسين الأوضاع.
يتعلّق الخبر أعلاه بالدّيمقراطيّة وانتخاباتها التي تسعى إلى تركيز غرفة تشريعيّة ثانية، من جهة موقف أهل تونس منها ومن مخرجاتها. ومن ثمّ تفسير هذا الموقف، هل هو موقف واع رافض للدّيمقراطيّة وما يتفرّع عنها أم هو مؤشّر على الاستسلام واليأس ومن ثمّ طيّ صفحة الثّورة؟
الوسط السياسي في تونس بؤس يزداد بؤسا كلّ يوم:
1- لا تزال الدّيمقراطيّة رغم عجزها الظّاهر، والانتخابات رغم عبثيّتها، مركز تنبّه الوسط السّياسيّ حكّاما ومعارضة. هي المحور الوحيد الذين يدورون حوله، فالرّئيس يزعُمُ أنّه الدّيمقراطيّ الأوّل وضع نظاما انتخابيّا يكون فيه النّائب ممثّلا حقيقيّا للشّعب، بدل النّظام السّابق حيث التّمثيل زائف ووهميّ. فيقاطع النّاس الانتخابات فتصيح المعارضة مبتهجة، كلّ همّها أن تثبت أنّ الرئيس ضدّ الدّيمقراطيّة أهدرها وأهدر بالتّالي فُرصة التقدّم والازدهار وضيّع على تونس فُرصة أن تكون نموذجا عالميّا، ويردّ الرئيس ووزراؤه وأنصاره أنّ العمليّة الدّيمقراطيّة في خير ونعمة وأنّ المقاطعة للانتخابات هي دليل على فساد الحكومات السّابقة والأحزاب السّياسيّة التي جعلت الحياة السّياسيّة سوقا تباع فيها الذّمم وتُشترى... هكذا جعل الوسط السياسي في تونس من الانتخابات ومقاطعة النّاس لها دليلا على الشّيء ونقيضه في منطق سفسطائيّ عجيب يأبى أن يرى خارج الصّندوق، خارج الفكر السّياسي الغربي! يأبى أن يرى تناقضاته وتخبّطه، فالرّئيس الذي لا ينفكّ يرفع شعار "الشّعب يُريد" لم ير أو هو لا يريد أن يرى أنّ الشّعب لا يريد، ويعتبر المقاطعة رضا (هكذا) رغم ما بذلته السّلطة من مجهودات ورغم ما صرفته من أموال من أجل إنجاح الانتخابات وجعل النّاس بل دفعهم دفعا إلى صناديق الاقتراع. أمّا المعارضة فلا يرون أو لا يريدون أنّ مقاطعة الانتخابات ليست ميزة هذه الانتخابات فالأرقام شاهدة على تدنّي نسبة المشاركة قبل وصول الرئيس ومبادراته!
2- لا يزال الوسط السياسيّ في تونس يتشكّل أساسا من فئة علمانيّة مضبوعة بالثقافة الغربيّة ترى فصل الدّين عن السياسة وتحرص حرصا شديدا على إبعاد الإسلام عن الحكم. ولا يزال هذا الوسط السياسيّ يعظّم الغرب وفكره وحكوماته، ويضع السياسيّون أنفسهم منه موضع التلميذ من معلّمه، فلا سياسة عندهم إلا اتّباع للغرب فكرا وممارسة!
مقاطعة الانتخابات يأس وإحباط أم موقف واع له ما بعده؟
يوم الأحد 2024/02/04، ظلّت مراكز الاقتراع خالية، وبعيدا عن الانتخابات ومراكزها ومرشّحيها، تابع التونسيون حياتهم وكأنّه لا وجود لانتخابات ومرشّحين وحملات...
1- مقاطعة الانتخابات، موقف متكرّر من التّونسيين منذ الثّورة، فقد دُعي النّاس إلى الانتخاب 8 مرّات، لم نر فيها إقبالا (وإن كان نسبيّا) سوى مرّتين؛ مرّة في تشرين الأول/أكتوبر 2011 أوّل انتخابات بعد الثّورة شهدت مشاركة عالية نسبيّا، والسّبب أنّهم ظنّوا أنّهم سيوصلون إلى الحكم من يخشى الله ويطبّق أحكامه، أمّا المرّة الثّانية فكانت في الدّور الثّاني للانتخابات الرّئاسيّة 2019 حين هبّ النّاس ظنّا منهم أنّهم يختارون رجلا نظيفا عادلا يخشى الله. ولمّا انكشفت الأوهام، عاد النّاس إلى المقاطعة.
2- الحال عندنا أنّ النّاس ما عادوا ينتظرون الانتخابات، أصلا، فهم يريدون حلّا لمشاكلهم، يريدون من يرعاهم ويُحسن رعايتهم، والرّعاية ليست مرتبطة بالأشخاص فقط بل أساسُها الحكم الرّشيد والنّظام المتناسق المتجانس الذي لا تناقض فيه ولا اضطراب ولا نقص، وأنّى لبشر أن يضع نظاما بهذه المواصفات؟ فهذه انتخابات لأشخاص يراد منهم أن يضعوا تشريعات، والتّشريع الوضعي لا يُمكن أن يكون إلّا ناقصا مضطربا ومتناقضا، ومن أهمّ مظاهره أنّه سيخدُم مصلحة الفئة الأقوى، والفئة الأقوى (أو ما يُطلَقُ عليه بالدّولة العميقة) ليست بالضّرورة الأشخاص المترشّحين أو الواصلين إلى المجالس، بل المعهود أنّ أركان الدّولة العميقة في كلّ بلدان العالم لا تظهر ولا تترشّح بل تُرشّح أشخاصا يُمكنها أن تتحكّم فيهم، والنّاظر في المترشّحين النّاجحين يرى أنّ أغلبهم من النّكرات من أشخاص لا فكر ولا رؤى ولا عهد لهم بالسّياسة، السّمة الغالبة عليهم قابليّتهم للشّراء والسّيطرة عليهم، وهذا ما تُريدُه "الدّولة العميقة". بما يعني أنّنا أمام نوّاب لا حول لهم ولا قوّة إلّا الاستجابة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لضغط القوى الخفيّة. هذا ما يعلمه الجميع علما.
3- المؤشّرات العامّة للرأي العامّ في تونس ترينا أنّ له موقفا من الطّبقة السّياسيّة كلّها؛ من المعارضة وممّن هو في الحكم، أمّا المعارضة، فقد رفضهم النّاس رفضا وما عادوا يهتمّون بهم ولا بما يحدث لهم من سجن أو محاسبة أو غيره، أعرضوا عنهم إعراضا منذ أن كانوا في الحكم، وازداد اليأس منهم حتّى ما عاد أحد يسأل عنهم أو يتحدّث إليهم، فهم في موت سريريّ، وإذا كانت المعارضة اليوم هي الممثّل الأساس للفكر الغربي والتّبعيّة له فنقول إنّ الفكر الغربيّ الغريب عن الأمّة في حال موت سريريّ ولن يكون له من أثر في المستقبل، ولعلّه لأمر كهذا نرى أنّ المستعمر الغربي لا يُسرع لإنقاذ عملائه من المحاسبة والسّجون. أمّا من هو في الحكم ونقصد هنا الرّئيس قيس سعيّد، فالرّئيس جيء به ليظهر رئيسا مختلفا عن سابقيه، شكلا ومضمونا. تحلّم الرّئيس فخطب ثمّ خطب ثمّ خطب، فتشابهت خطاباته، وكانت كلّها نقدا لاذعا وربّما تحوّل إلى سبّ أو تهديد، غير أنّها غير ذات فاعليّة بل كانت أشبه بخطاب شابّ جامعيّ ثائر لا خطاب رئيس دولة يحوز جميع الصّلاحيّات، أمّا عن أعماله وتحرّكاته فاستعراضيّة كلّها. وقد أدرك النّاس جميعهم خواء الرئيس وخطاباته وتحرّكاته، حتّى صار محلّ سخرية وتندّر، ومن هنا تشكّل الموقف من الرئيس أيضا، فقد يئس النّاس منه بل ما عادوا ينتظرون منه شيئا.
4- فماذا بقي؟ أليس هذا هو الاستسلام بعينه؟ نقول: المستسلم اليائس لا موقف له ولا وضوح في الرؤية، أمّا في تونس فالموقف العامّ في طريقه إلى التّبلور في اتّجاهين: الاتّجاه الأوّل الحسم مع الواقع السياسي وما يُمثّله رئيسا ومعارضة، أمّا الاتّجاه الثّاني فهو البحث عن قيادات جديدة جدّيّة وصادقة.
5- ماذا عن الدّولة العميقة؟ الدّولة العميقة في تونس ليست (كما في أوروبا وأمريكا) متكوّنة من الرّجال النّافذين من الرأسماليين، إنّما الدّولة العميقة في تونس هي المستعمر، وهو غريب عن المجتمع ونجاحه في السيطرة على تونس كان لخفائه وتمكّنه من اتّخاذ عملاء من الطّبقة السّياسيّة استطاعوا لفترة قيادة النّاس بروابط واهية واهنة، قادهم بورقيبة أوّلا بالمكر والخداع ثمّ بن علي بالقمع والخوف مع شيء من الخداع والإيهام. ثمّ حاول "حكّام" ما بعد الثورة قيادتهم بالاسترضاء والتملّق. وما لبثت هذه الروابط الفاسدة أن انقطعت، فتخلخلت هيمنة المستعمر على البلاد، وكادت أن تنقطع كلّ روابطه، وإذا فقدت هذه الوسائل انقطعت حبائل الدّولة العميقة وما عاد لها من تأثير، وهذا ما شهدناه في الموجة الأولى من الثّورة لا في تونس فحسب بل في كلّ البلاد الإسلاميّة حين عجز الطّغاة عن السّيطرة واضطرّوا اضطرارا إلى الفرار أو التّنحّي أو الموت قتلا...
6- ما نشهده اليوم في تونس من مقاطعة للانتخابات هو موقف واع، وعى أنّ الدّيمقراطيّة عجز كلّها وعلم علما أنّ الانتخابات الدّيمقراطيّة وما تُفرزه من مجالس تشريعيّة مهما كان اسمها، هزيلة كلّها، فقاطعها وعيا وموقفا له ما بعده.
نُذرُ الموجة الثّانية من الثّورة:
وإزاء هذه المؤشّرات يمكننا أن نقول إنّ نذر موجة ثانية من الثّورة بدأت تلوح في الأفق، ومن أهمّ خصائصها:
1- زال السّحر، وانطفأ الوسط السّياسي التّقليدي برمّته، ويرجع ذلك إلى عجز الفكر الغربي الذي صيغ به ذلك الوسط، عن مواصلة إقناع النّاس أو إيهامهم، أو إرهابهم وتخويفهم. أمّا الإقناع فبؤساء العلمانيّة مفلسون فكريّا، ولم يعد لهم ما يقدّمونه للنّاس غير حديث باهت عن حرّيّات لم ير منها التّونسيّون غير الهجوم على الإسلام وأحكامه ومقدّساته، وغير الدّفاع عن الشّذوذ والتهتّك والمجون. وأمّا الإيهام، فأنّى لهم الإيهام وقد انكشف كلّ المستور؛ انكشف ارتباطهم بالمستعمرين وما عاد يخفى على أحد حتّى البُسطاء أنّ الطّبقة السّياسيّة كلّها حكّاما ومعارضة ليست إلّا واجهة لمستعمر هو العدوّ. وأمّا الخوف، فقد انقضى الوقت الذي يخاف فيه النّاس من عصا يلوّح بها شرطيّ في الشّارع بل لم تعد تخيفهم قوانين إرهابه وأحكامه الجائرة. فقد زال الخوف ولا يُمكن للمسلمين في هذه الفترة أن يُساسوا بالخوف أو القمع، وما نراه من زيادة تهجّم على السّلطة كلّما أرادت أن تلوّح بالعصا... شاهد على ما نقول. هذا وأهلنا في تونس مسلمون يحبّون دينهم، يشهد تاريخهم الطّويل على بطولاتهم، وأنّهم من معدن الرّجال، فأنّى لماكر أو طاغية أو جبان أو عاجز أن يقودهم؟
2- بروز فكر جديد، ولا نعني بالجديد جدّته الزّمنيّة بل نعني ترشّحه لأن يكون الحاكم والقائد وهو الفكر الإسلامي في ثوب جديد صاغه حزب التحرير واضحا دقيقا قابلا للتطبيق الفوري.
3- ظهور حزب التّحرير وشبابه سياسيين من طراز خاصّ لا يُشبه الوسط السّياسيّ التّقليديّ، رجال دولة يفهمون فهما ما يدور لا في تونس فحسب بل في العالم، وبدأ يظهر للنّاس إمكانيّة أن يكون شباب الحزب هم القادة الجُدد.
4- ماذا بقي إذن؟ بقي أن يسير النّاس مع الحزب وشبابه، ليتحرّروا حقيقة من الاستعمار وعملائه وفكره البائس، وأن يختاروا رجلا منهم يقودهم بالإسلام العظيم وأحكامه، فماذا ينتظرون؟ هي الشّعوب بعد طول تضليل وخداع، صارت حذرة متوجّسة من الخداع مرّة أخرى ومن انقضاض الأعداء وانهيار الفرصة وربّما العودة إلى الاستعمار.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمّد النّاصر شويخة
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس