- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرى ووعد وبشرى
لا يختلف مسلمان على أنَّ إقامة الدين والعمل به واجب شرعي، وأنَّه ثابت بالدليل القطعي من الكتاب والسنة، وعليه إجماع الأمة من لدن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يحتم علينا أن نتعامل معه على أنَّه حكم شرعي وواجب إلهي لا بُدَّ من إبراء الذمة منه، بصرف النظر عن النتائج، ومن دون تسليط للقيم المادية ومؤثرات الواقع الفاسد الذي هيمن على بعض النفوس والعقول حتى أصبحت تبحث عن الحل فيه!!
على الرغم ممَّا تُحدِّثنا به أنفسنا من صعوبة الحل الشرعي للواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة حتى نكاد نقارنه بالمستحيل، إلا أنَّه سهل ميسور، لا يحتاج إلى فلسفة عميقة، هكذا بسهولة: نتعامل معه شأنه شأن أي حكم شرعي آخر، وبما أنَّه حكم شرعي، إذاً يتعيَّن علينا أن نطلب طريقة تحقيقه من الشرع، وذلك بالنظر في سيرة خير الخلق، المصطفى ﷺ، فنتتبع أعماله لكي نعرف الطريقة الشرعية لإقامة الدين واستئناف الحياة الإسلامية، هذا هو الأساس، وهذا ما يحتمه علينا كوننا مسلمين، وفي الوقت نفسه علينا أن نتجرد من كل مؤثرات الواقع المادية، التي تجعلنا نستصعب السهل، وتُرينا التقيد بسيرة المصطفى مضيعة للوقت وعملاً من دون جدوى، حتى غاب عنا أننا مأمورون بالعمل، ولسنا مطالبين بالنتائج!
ولو تتبعنا سيرة الحبيب الطبيب ﷺ لوجدنا أنَّ إقامة الدين في ضوء الطريقة النبوية يُمكن إجماله بنقطتين اثنتين:
الأولى: وجود الجماعة المؤمنة الواعية التي تأخذ على عاتقها الدعوة إلى الإسلام بالتثقيف والإعداد والتفاعل مع المجتمع؛ لإيجاد الرأي العام والقاعدة الشعبية التي تتبنى أفكار الإسلام وأحكامه؛ وذلك بإعادة ثقة المسلمين بدينهم وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان، وأنَّه وحده سبيل نجاتهم في الدنيا والآخرة.
الثانية: تحري مواطن القوة في الأمة، وأصحاب الأمر فيها، وإعادة ثقتهم بالإسلام، وإقناعهم بوجوب نصرته وجعله موضع التطبيق والتنفيذ، بحيث يكون هو النظام الذي تسير عليه حياة المجتمع؛ ليكونوا أنصار الله كما كان الأوس والخزرج، فيفوزوا برضا الله سبحانه وتعالى.
هذا هو باختصار ما فعله رسول الله ﷺ، ولم يَحِدْ عنه، ورفض كل المغريات التي عُرضت عليه من المال والجاه وأنصاف الحلول، وثبت أمام التعذيب والاضطهاد والحصار وصبر حتى أتاه نصر الله وهو على ذلك.
إنَّ آفة الإعراض عن العمل الحقيقي لهذا الواجب، والمغالطة بالاقتصار على أعمال جزئية، يرجع إلى استعجال تحقيق النتائج وقطف الثمار، وتسلط النظرة العلمانية الغربية المادية لمفهوم النتائج على النفوس، وهو ما جعل كثيراً من الحركات التي ترفع شعار العمل للإسلام، تشارك في حكم الكفر العلماني وأنظمته، لتحقيق ما ظنوه مكاسب سياسية، ولكنها في الحقيقة عملت على تدعيم نظام الكفر وتمكينه من رقاب المسلمين، حتى غدا عند هؤلاء الاعتراف بكيان يهود وفتح سفارة رسمية له، واستقبال رئيسهم وسفرائهم والترحيب بهم، من باب "السياسة الشرعية"، بل أصبحت الخيانة وموالاة الكفار ومدهم بأسباب القوة "سياسة شرعية"!!
وبالاستقراء والتتبع وبالمنطق الذي يتكلمون به، ما الذي قامت به وحققته تلك الحركات المشارِكة في أنظمة الكفر ورضيت بالتنازل عن الإسلام، ودخلت في كنف "الإسلام الغربي المعتدل"؟! عملياً لم تفعل شيئاً حقيقياً غير كونها عاملاً داعماً لبقاء وديمومة تلك الأنظمة، وتحقيق أهداف دول الكفر بفصل الإسلام عن الحياة والدولة والمجتمع، ثُمَّ لم تلبث تلك الدول وحكوماتها العميلة أن رمتهم رمي النواة، والشواهد كثيرة!
إنَّ تسلط النظرة العلمانية الغربية المادية لمفهوم النتائج على النفوس، واستعجال تحقيقها، جعلت هذه التوجهات تبحث عن حلول جزيئة ترقيعية آنية بصرف النظر عن موقف الإسلام منها، وترسخ عند أصحابها أنَّه: ما دمنا لا نرى تلك النتائج - من مقاعد برلمانية ووزارات ومناصب وعلاقات دولية،... - إذاً لا جدوى من العمل!! وأحدث ذلك في نفوس شريحة من الناس تقبّل الواقع الفاسد وترك المفاصلة مع الكفار وأذنابهم! ثُمَّ تحول ذلك إلى يأس وتنصل من الواجب الشرعي المطلوب منا العمل له، ألا وهو إقامة الدين واستئناف الحياة الإسلامية، والصبر عليه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا ما قامت به قريش من أعمال حاولت بها منع النبي ﷺ من الدعوة إلى الإسلام، فخاضوا مفاوضات عدة مع أبي طالب لمنع النبي ﷺ وثنيه عن أمر الدعوة، وكان بعضها متضمناً التهديد والوعيد، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه عاماً ويعبد آلهتهم عاماً، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ...﴾، ثُمَّ كان جواب النبي ﷺ حاسماً قاطعاً: «واللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي والقَمَرَ في يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، ما تَرَكْتُهُ»، وساموا المسلمين ألوان العذابات، المادية والنفسية، ولكن لم يكن للتنازل أي محل في قاموسهم، فإذا لم نكن بهذه العقلية وهذه النفسية، فكيف ننتظر النصر والتمكين؟!
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنَّ الله تعالى يقول: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾، ويقول: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾، ويقول: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا ما قصه الله تعالى علينا من شأن نوح عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾، ونسوا أو تناسوا قول النبي ﷺ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ،...»، الحديث، وهذا كله يعني لا نتائج بالمقاييس المادية الواقعية.
ولكن العبرة ليست بالنتائج، بل بالتقيد بحكم الشرع والثبات على نهج النبي ﷺ، والصبر عليه، مع الإيمان القطعي بأنَّ النصر من عند الله وحده سبحانه: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، وأنَّه ناصر عباده المؤمنين: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وأنَّ هذا النصر هو وعد من الله سبحانه لمن صبر وثبت، وليس لمن تنازل وتوانى وتقاعس: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وهو بشرى رسوله ﷺ: «تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكاً عاضّاً، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكاً جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ».
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الله محمد سعيد – ولاية العراق