- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
عمليّة رفح: هل يخرج "نتنياهو" عن طواعية أمريكا؟
منذ أشهر، لوّح نتنياهو باجتياح رفح والقيام بعملية عسكرية نوعية معتبرا "أن عدم دخول جيشه إلى رفح ومواجهة كتائب حماس هناك سيكون بمثابة خسارة الحرب". (فوكس نيوز صنداي، 2024/02/11).
في المقابل، تباينت ردود الفعل الرسمية الأمريكية بين الرفض المطلق والدعوة إلى التأجيل بسبب وجود عدد من المدنيين يُفترض إجلاؤهم قبل القيام بأية عملية عسكرية.
فإلى أي مدى تعتبر أمريكا جادة في رفض مقترح اجتياح رفح وهي الحليف الأول والداعم الأساسي لكيان يهود في هذه الحرب؟ وهل ستتمكن من إلجام نتنياهو وكبح جماحه هذه المرة أم أنه سيلطخ يديها في مزيد من الدماء البريئة خاصة بعد نجاحه في المناورة وإطالة أمد الحرب ليصل بها إلى نقطة السيطرة على معبر رفح؟
بداية، وقبل استجلاء حقيقة الموقف الأمريكي من إصرار نتنياهو على دخول منطقة رفح، لا بد من التذكير بالنقاط التالية لأهميتها:
أولا: إن كيان يهود هو مشروع غربي استعماري، زرع في خاصرة الأمة لمنع وحدتها على أساس الإسلام، وهذا الكيان الوظيفي تتولاه الآن وترعاه الدولة الأولى في العالم (أمريكا) خدمة لأهدافها الإقليمية والدولية وسعيا للحفاظ على هيمنتها الاستعمارية في المنطقة ضمن سياق الحرب الحضارية المعلنة على الإسلام.
ثانيا: لا يوجد أي خلاف بين أمريكا وكيان يهود على ضرورة بقاء هذا المشروع الاستعماري كورم سرطاني خبيث في جسد الأمة، بل إن بقاءه هو مصلحة استراتيجية وضرورة حيوية لدى الغرب كلّه وفي مقدمته أمريكا التي تعتبره ابنها المدلل، ولذلك تنادت كل قوى الكفر لحماية هذا الكيان من خطر الزوال بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م.
ثالثا: إن الخلاف قد يكون مع من يعطلون المشروع الأمريكي أو يخرجون عن الخط المرسوم لهم في استراتيجية أمريكا في المنطقة ما قد يهدد الأمن القومي الأمريكي، لذلك فهي تضطر أحيانا إلى التدخل أو إلى وضع بعض الخطوط الحمراء، حفاظا على بقاء هذه القاعدة العسكرية المتقدمة في بلاد الإسلام. بل ربما نجدها تخشى على هذا الكيان حتى من قيادته إذا أصبحت تعرض المصالح الأمريكية للخطر أو تنذر بقرب زواله، وهذا ما بدا مع حكومة نتنياهو في أكثر من مناسبة...
لم يخف بايدن تأييده المطلق لكيان يهود خلال مسيرته الطويلة، كما جمعته علاقة وثيقة بنتنياهو الذي يناديه باسم الدلع "بيبي" حتى في أشد الفترات خلافا. وبينما كان أول المعانقين والمساندين له إثر الهجوم الذي تعرض له الكيان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م، وهزّ صورته في العالم، فقد لوح بايدن للمرة الأولى بتعليق بلاده بعض الدعم العسكري لكيان يهود، والذي يوازي 3 مليارات دولار سنويا، لدفعه إلى الامتناع عن شن هجوم واسع على المدينة الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة.
حيث كشف بايدن في تصريحات لشبكة سي إن إن يوم الأربعاء 2024/05/08، أنه سيمتنع عن تزويد (إسرائيل) بالقنابل وقذائف المدفعية في حال مضت في خططها بشأن رفح، بعدما أكدت إدارته أنها علّقت شحنة تتضمن آلاف القنابل الثقيلة لسلاح الجو.
وفيما تحاول الإدارة الأمريكية ضمان أمن الكيان على المدى الطويل، فتتعامل مع الوضع بدقة وحساسية نابعة من فهم لحقيقة فشل نتنياهو في استعادة المحتجزين وإنهاء وجود حماس وبالتالي في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، ومن إدراكها لعواقب توسيع نطاق الحرب وتبعات فتح عدة جبهات للقتال على القدرة القتالية لهذا الجيش المتقهقر، بل من خشيتها على مستقبل الكيان برمّته، يصر نتنياهو في المقابل على سياسة الهروب إلى الأمام بكل ما يعنيه ذلك من تعنت وتمرد على سياسات أمريكا ومن تجاهل للحقائق من حوله، طالبا المزيد من الدعم، فيغمض عينيه عن تنامي الغضب العالمي ضد جرائم هذا الكيان وانحسار حجم الدعم الغربي ويصم آذانه عن ارتفاع الأصوات المطالبة بتنحيته في داخل كيان يهود نفسه، وفوق هذا وذاك فهو لا يبدو أنه يعبأ بحجم الهزائم الميدانية الساحقة التي مني بها جيشه على أيدي أبطال غزة.
ولذلك كانت التصريحات الأمريكية تصبّ في سياق حماية الكيان من تمادي نتنياهو في غيّه:
- فقد حثّ الرئيس الأمريكي رئيس وزراء كيان يهود على عدم شنّ عملية عسكرية برية في رفح بجنوب قطاع غزة "من دون خطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ" لحماية المدنيين، وذكر البيت الأبيض في بيان أن بايدن أكد مجددا دعمه للهدف المشترك المتمثل في هزيمة حماس وضمان أمن (إسرائيل) على المدى الطويل. (دويتشه فيله، 2024/02/11).
- وفي سياق إلزام مصر بالموقف الأمريكي، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إن الرئيس الأمريكي جو بايدن حدّد موقفه بوضوح بشأن رفح، حيث لن يسمح بتدخل بري (إسرائيلي) في رفح. وأضاف خلال مؤتمر صحفي مع سامح شكري وزير الخارجية عقب مباحثاتهما بالقاهرة، مساء الخميس 2024/03/21، أن (إسرائيل) إذا شنت عملية برية في رفح ستكون خطوة خاطئة ولا يمكن دعمها من قِبل واشنطن. (الشروق المصرية، 2024/03/21).
- ثم في تصريحات جديدة، كررت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الموقف عينه، فجاء على لسانها: "لقد كنا واضحين في محادثاتنا مع تل أبيب، وأكدنا بشتى الطرق أن أي عملية عسكرية كبيرة في رفح ستكون خطأً فادحاً". (العربية، 2024/03/25).
هذه عيّنة فقط من التصريحات والمواقف الأمريكية التي تصب جميعها في خانة رفض التصعيد العسكري في منطقة رفح، مع تلطيف الكلام، كما تتالت الأعمال السياسية والعسكرية التي حركتها أمريكا لكبح جماح نتنياهو وترويضه عسى أن يستفيق من غيبوبة غروره، فكان استدعاء عضو مجلس الحرب بيني غانتس إلى واشنطن بدون موافقة رئيس وزراء الكيان بل رغما عنه، وكانت صفعة الرد الإيراني المدروس والمنضبط، وكان ارتفاع سخونة جبهة جنوب لبنان وعدم هدوئها، وكانت استضافة تركيا لقادة حماس وإعلانها المتأخر لقطع علاقاتها التجارية مع الكيان، وكانت المواقف المصرية الرافضة للتدخل العسكري في رفح، وأيا كان من يقف وراء عملية استهداف (إسرائيلي) في الإسكندرية بمصر، فإنها تمثل صفعة أخرى على وجه نتنياهو ومجلس حربه المتلهف على الدخول إلى رفح. كل هذه الأعمال يرجح أن تكون أمريكا وراءها.
بل إن إشراف مدير المخابرات الأمريكية على المفاوضات بنفسه وتنقله بين القاهرة وتل أبيب في الفترة الأخيرة، كان كله في سياق الضغط على نتنياهو وإحراجه من خلال القيام بما عجز عن تحقيقه، من إطلاق لسراح الرهائن وتعقب لقادة حماس والعثور على أنفاقها السرية، فضلا عن تنسيق واضح مع الجانب المصري لتمكينه من القيام بعملية محدودة على محور فيلادلفيا وعلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح، ولكن شرط ذلك كله هو تجنب عملية شاملة في رفح.
فقد تناولت مباحثات مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز ورئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو إمكانية وقف الهجوم العسكري على رفح مقابل إطلاق سراح الرهائن لدى حماس، بحسب ما أكد مسؤول في كيان يهود لوكالة فرانس برس يوم الأربعاء الثامن من أيار/مايو 2024م.
كما عرضت واشنطن على كيان يهود تقديم معلومات استخباراتية حساسة لمساعدته على تحديد موقع قادة حماس والعثور على الأنفاق، مقابل التراجع عن عملية اجتياح واسع لرفح بحسب صحيفة واشنطن بوست. (سكاي نيوز، 2024/02/11). وهذا العرض الأمريكي، جاء بعد قرار بالإجماع لمجلس وزراء الحرب في كيان يهود، مواصلة العملية العسكرية في رفح، وذلك من أجل تعزيز إطلاق سراح الرهائن بحسب بيان المجلس الصادر يوم الاثنين 2024/05/06م.
وهكذا، تستمر أمريكا بقيادة بايدن في إحراج نتنياهو وإقامة الحجة عليه، وحتى كشف ألاعيبه ومناوراته، حيث قال مسؤول أمريكي إن (إسرائيل) لا تتفاوض بنية صادقة، وأضاف لرويترز "لم يتعامل نتنياهو وحكومة الحرب مع أحدث مرحلة من المفاوضات مع حماس بنية صادقة على ما يبدو". (سويس إنفو، 2024/05/06). كما لا يبدو أن أمريكا قد استخدمت كل أوراقها لردع نتنياهو، بل لا يزال في جعبتها المزيد.
أما نتنياهو، فلم يضاهه أحد من قادة هذا الكيان في صلفه وعجرفته وغروره وتعطشه لإراقة الدماء، وهو مستمر في مناوراته واستغلال كل الأزمات وتطويعها لغاياته الإجرامية الاستئصالية، متظاهرا بأنه مستعد للقتال بأظافره لإثارة التعاطف واستجلاب الدعم الغربي، مراهنا على سكوت أمريكا عن عربدة كيان داس بقدميه كل الأعراف والقوانين الدولية، حتى شاهد العالم أجمع كيف مزق مندوب كيان يهود في الأمم المتحدة ميثاق الأمم المتحدة نفسه.
كما يُراهن نتنياهو على ورقة الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام، والتي تفرض على بايدن استرضاء اليهود وكسب أصواتهم، خاصة مع تزايد حجم الضغط الذي يمارسه الحزب الجمهوري في اتجاه دعم حكومة نتنياهو. في الأثناء، يواصل جيش كيان يهود قصف شمال القطاع دون هوادة، معلنا سيطرته على الطريق الرئيسي الذي يفصل الجانبين الشرقي والغربي لمدينة رفح بعد السيطرة على المعبر، ولذلك فالأرجح أن يُحاول نتنياهو تجاوز الخطوط الحمراء بعد الحصول على ضوء أخضر لعملية عسكرية محدودة في رفح يُراد لها أن تستمر وتتوسع على أمل خفوت الاستياء والغضب لدى زعيم الديمقراطيين بايدن تزامنا مع الحملة الانتخابية.
ختاما، فإن مكر أمريكا ويهود لا يلغي مكر الله ولا يؤخر نصر الله لعباده المؤمنين، بل إن في أحداث طوفان الأقصى مؤشرات ربانية على تسارع الزمن نحو تحقق وعد الآخرة بإذن الله وزوال كيان يهود، وقد يجر نتنياهو هذا الكيان إلى حتفه بإذن الله متى أمسكت الأمة بزمام الأمور وحركت جيوش التحرير، فإن زمن المفاصلة الحضارية مع الإسلام قد حان، لتقتلع الخلافة الراشدة هذا الورم السرطاني وكل التعفنات الجرثومية التي أوجدها الغرب الرأسمالي في بلاد الإسلام.
﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس