السبت، 14 محرّم 1446هـ| 2024/07/20م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المُنبتّون في مؤسّسة تكوين

حلقة أخرى من الغربة والتّيه عن الأّمّة الإسلاميّة وحقيقة الصّراع في هذا الكون

 

في مقابلة إعلامية على قناة BBC بتاريخ 4 حزيران/يونيو 2024 مع يوسف زيدان عضو مجلس أمناء مؤسسة "تكوين الفكر العربي" التي تمّ الإعلان عن تأسيسها في القاهرة بداية شهر أيار/مايو الماضي، صرّح فيها أنّ المؤسسة تهدف لإعادة تثقيف المنطقة العربية فكريّا من خلال إعادة بناء المفاهيم المسيّرة للعقل العربي والتي أدّت للتطرف والانهيار والتّدهور في القيم والأخلاق والتّعليم، وينبغي الإشارة كذلك أنّ العضو لم يُحدّد مصادر تمويل المؤسّسة التي دار حولها جدل وشبهات كثيرة، مُبرّرا أنّ انطلاق نشاط المؤسّسة كان بمباركة الدولة في مصر وفي المتحف المصري، وفي إجابة عن سؤاله عن سبب رفضه لأي مناظرات فكريّة علنيّة مع بعض شيوخ وعلماء الأزهر، قال إنّ المناظرات أمام البسطاء تؤدّي للنِّقار وأنّه يُفضّل المحاورات في الفضاءات الخاصّة أو كتابة المقالات والرّدود الفكريّة.

 

لطالما مثّلت مصر تاريخيّا وتحديدا منذ أواسط القرن التاسع عشر، مركزا ثقافيّا مؤثّرا وفاعلا في كامل المنطقة، فكانت جميع محاولات ما يسمّى بـ"الإحياء" أو "التّغيير" أو ما يُسمّى زُوراً "النّهضة العربيّة" تمرّ عبرها، حتى وإن كان القائمون عليها من الشام أو العراق أو المغرب الإسلامي. وبالعودة لتلك الفترة التي يرى عضو مؤسسة تكوين أنّ مشروعهم استمرار واسترسال لها والتي قادها أمثال رفاعة الطهطاوي وطه حسين، نتساءل: ما الذّي أنتجته محاولات السّابقين ليبنيَ عليها اللاّحقون لهم في تكوين؟

 

نحن لن نُقيم محاكمة للرموز الفكريّة لتلك المرحلة فلم نعد بحاجة لذلك؛ فقد أثبت الواقع بعد قرنين من الزمن سوء أفكارهم التي جاءت في مرحلة التّيه والانحطاط والاستعمار فكانت معبرا للغزو الثّقافي، والعودة لكتاباتهم السّقيمة تكفي دليلا على الانبهار الأعمى بالغرب وضياع المقاييس الفكريّة الصلبة، فلا هم أتقنوا المقاييس الفكريّة لحضارة الإسلام ولا هم كانوا على وعي كامل بمقاييس الفكر العلماني الغربي، لكن ما يثير الاهتمام أن القائمين على تكوين يدّعون حمل مشعل عمليّة النهضة الثقافية بالمنطقة من خلال تغيير المقاييس والمناويل المُسيّرة للعقل العربي الحالي وهي عبارات مُنمّقة يُقصد بها بكلّ بساطة مواصلة مشروع قديم مُستمرّ لتفكيك الأصول العقديّة والفقهيّة والتشريعية للإسلام التي تركها فينا نبيّنا محمد ﷺ مُبيّنا لنا أنّ نعضّ عليها بالنواجذ حتى لا نضلّ الطريق بعده أبداً، وهنا سؤال ثان يتبادر إلى الأذهان: هل الواقع اليوم يخضع للمقاييس الفكرية الشرعية الموجودة في القرآن والسنّة؟ أليس الواقع الذي صنعه فكريّا وثقافيّا وسياسيّا الطهطاوي وطه حسين ومحمد حسين هيكل وسعد زغلول وقاسم أمين وهدى الشعراوي والعقّاد، هو المسيّر لنواميس السياسة والثقافة والتعليم العلمانيّ تحت نعوت مُضلّلة "تنويريّ وحداثيّ وتقدّمي" في المنطقة؟ الساحة كانت لهم ولوارثيهم من أمثال أصحاب "تكوين"، فهم لم يتعرّضوا أبدا لاضطهاد حقيقي من السّلطة، ولطالما كانوا ولا زالوا في تناغم وانسجام تاريخيّ مع الأنظمة، بدليل أنهم يحتكرون الأكاديميات والجامعات والجوائز والمتاحف والمساحات الإعلاميّة والمنابر والمؤتمرات. في المقابل كلّ من يتمسّك بضوابط ومفاصل الحضارة الإسلاميّة له السّجن والنفي والتّعذيب والإقصاء والقتل أيضا.

 

إذن، إذا كانوا لا يُصرّحون مباشرة بمصادر تمويلاتهم مُبرّرين أنّ الدولة في مصر التي تملك الأولويّة في مُحاسبتهم راضية عنهم، فإنّ في قولهم هذا تُهمة لهم، فمن يتجرّأ اليوم أن يتفاخر برضا نظام السيسي عنه غير المتواطئ والخائن؟!

 

ثمّ نظرة في التّردّي والانهيار الذي أصاب التّعليم، أليست كل النصوص الأدبية والفكرية والفلسفية المُدرّسة في جميع المراحل الدّراسية من التعليم الابتدائي إلى الدّراسات العليا أصحابها من روّاد فكر "النّكبة العربيّة" التي يفتخر أهل تكوين بالانتماء لها والاسترسال عنها؟ إذن من المسؤول الحقيقي عن التّردّي في البلاد الإسلاميّة؟ أنتم من تملكون السلطة الثقافية برعاية الأنظمة العربية الطاغية وتأطير السّفارات؟ أم فرسان آخر قلاع النضال والمقاومة والتّصدّي للفكر الليبرالي الغربي الذي أنتج الموت والبؤس ليس للمسلمين فقط بل للإنسانيّة قاطبة؟

 

كذلك ما ينبغي أن نقف عنده أمران آخران:

 

أوّلهما حالة التّهرب الملاحظة عند المثقّف العلماني العربي من المواجهة، فهو يهرب من المناظرات والاحتكاك بالإنسان المسلم الذي ينعته بـ"البسيط"، مُتناقضا مع الشّعار الذي يرفعه "التّثقيف العام"، أنت لا تُواجه ولا تجلس مباشرة لمن تريد تثقيفه، لماذا؟! وتُفضّل غرس مشروعك عبر السلطة السياسية بالتّأثير في السياسة الثقافية والإعلاميّة والتّعليمية، لماذا؟!

 

إذن هذه أدلّة قاطعة على إعلان الفشل قبل البدء حتّى، فهو ينحو للمناورة والحيلة لأنّه لا يملك أدوات فكريّة تقنع العقل والفطرة المسلمة رغم أنّه يدّعي عقلانيّة مشروعه وانتصاره للعقل، ولعلّنا نجد دليلا ثانياً على فشل المشروع قبل الولادة، من خلال كمّ الانتقادات اللاذعة من دهاة التيّار العلمانيّ وهي وجوه أخرى قدّمها الإعلام على أنّها معارضة لجوهر مشروع تكوين لكنّها حقيقة تدور في فلكها، فإنّما هي ترفض الوجوه القائمة على تكوين والتي اشتهر أغلب روّادها بمواقف معادية للإسلام بعقيدته وفقهه وحديثه وحتى تاريخه المتّفق عليه، فوصل بهم الأمر إلى حدّ التّشكيك في شخصية صلاح الدين الرّمزية التي يكتب عنها بانبهار المؤرخون الإنجليز - رُغم عداوتهم التاريخية للإسلام وحضارته - ويُصوّرها علمانيّو العرب بالظلم والديكتاتورية في حكمها لمصر، فهذه الانتقادات ليست للمشروع في حدّ ذاته بل لأنّها ترى في رموزه أوراقا محروقة ولها تاريخ منبوذ، وبذلك لن تستطيع الولوج للعمق الإسلاميّ، وتُفضّل أسلوب المداهنة والتنكّر من خلال تدجين وتأطير بعض رموز الأزهر بجعله جهة تحتكر الحديث عن الإسلام وفق مقاييس العلمانيّة.

 

وننتقل لثاني الأمرين وهو علاقة ووعي المثقّف العلماني العربي بما يحدث حوله سواء في البلاد الإسلاميّة عامة أو مصر خصوصا، والتي يجتاح أهلها الأوفياء الإحساسُ من جهة بالحرج والخجل من أمّتهم، ومن جهة ثانية النقمةُ على النظام القائم في علاقة بمنعه كل سُبل النصرة والنجدة لأهلنا في غزة من تقييد لحركة الجيوش في ثكناتها، وغلق للحدود ومنع للمساعدات أو أية مظاهر للدّعم والتّعاطف حتى في الملاعب!

 

إنّ الأصل في المثقّف الحقيقي والمخلص أن يكون قادرا على تشخيص آلام أمّته وأن يحمل نبض الشّارع، ومن ثمّ أن يُعبّر بأرقى ما يستطيع من قول وفكر عن سُبل الخلاص قائدا عمليّة الوعي والتغيير على حدّ سواء، لكن هؤلاء يسبحون في عالم آخر عالم، حتى أهله وأصحابه من مفكّري وفلاسفة الغرب صاروا يبحثون عن بديل له في ظل انهيار النظام الدولي وما يسمى بالقيم الكونيّة الإنسانية تحت أقدام حرب غزة، فالإنسان المسلم في غزة أحدث رجّة في الفكر الغربي وجعله محلّ تساؤل وشكّ في نجاعته وصدقه، وجعل من مقولة نهاية التاريخ والإنسان الأخير أُضحوكة وعبثاً، وفرض واقعا جديدا كانوا يسخرون منه ويُشكّكون فيه، وهو أن الحضارة الإسلامية لا نهاية لها وأنّ السقوط والاندثار ليس بقدر لها وأنّنا أمّة عظيمة فقدت دولتها لكنّها تحارب دولا كثيرة تحالفت ضدّها، وأنّنا أمّة تزحف من تحت الرّكام وفي طريقها للانبعاث من جديد وما هي إلاّ عمليّة ولادة عسيرة. فأين أصحاب تكوين المنبتّون عنّا من الواقع والتاريخ والحقيقة؟

 

يقول ﷺ أصدق النّاس وسيّد الخلق جميعا: «الْمُنْبَتُّ لَا أَرْضاً قَطَعَ وَلَا ظَهْراً أَبْقَى».

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

هاجر بالحاج حسن

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع