- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الأستاذ يوسف أبو زر في المؤتمر العالمي "عام مضى أيتها الجيوش"
الذي عقدته قناة الواقية يوم الخميس 07 ربيع الآخر 1446هـ الموافق 10 تشرين الأول/أكتوبر 2024م
فلسطين: استنصار الجيوش بين المشروعية والواقعية والحتمية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
الإخوة الكرام، من الأرض المباركة، أرض الصبر والصمود، الأرض التواقة للتحرير، نبعث لكم التحية في هذا اللقاء المبارك، سائلين الله عز وجل أن يمن على أمتنا بالفرج، وبالقوة بعد الضعف، وبالأمن بعد الخوف، وبالخلافة على منهاج النبوة، إنه سميع مجيب، وبعد:
لقد كان السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م حدثاً كبيراً، أحدث في كيان يهود كسرا لا يجبر، وكشف عورته وضعفه كشفا لا يستر، وكل ذلك على أيدي طليعة من شباب الأرض المباركة، أعادت للأمة الذاكرة بالنماذج المشرقة، وأن البطولة في هذه الأمة ممتدة حتى الساعة، بل إلى قيام الساعة، وقد كان ينبغي أن تُدرَك هذه الطليعة، لا أن تُترك، أن تدرك بقوى وجيوش، ولكن هذه الطليعة ترُكت، كما تركت تلك الفرصة التاريخية في اجتثاث ذلك الكيان.
ولأن أهل فلسطين تركوا وخُذلوا، فإن هذا العدو وفي سبيل استعادته لهيبته، قد تعمد أن يلحق بالأرض المباركة وأهلها أشد الأذى، من خلال عشرات الألوف من الشهداء، وتسوية غزة بالأرض، والسعي للتنكيل بالضفة الغربية وأهلها، والاستباحة اليومية، والخطط الخبيثة للمسجد الأقصى، ثم تطاول وتطاول، حتى طال شره وشرره الإقليم بأكمله.
والحقيقة أن أهل فلسطين، ومن حول فلسطين، لم يكونوا ضحايا هذا الكيان فقط، بل إنهم كانوا في الأساس ضحايا الخلل الكبير الذي أوجده الغرب الاستعماري في مفهوم الأمة، حيث تعطلت فاعلية هذا المفهوم تجاه قضايا الأمة بفعل الوطنية المقيتة، وكذلك كانوا ضحايا ذلك التشوه الشديد الذي أحدثه الحكام بحكم عمالتهم للغرب، على دور الجيوش والقوات المسلحة ومراكز القوة في الأمة، وهو ما نحن بصدده في هذه الكلمة.
لقد بلغ هذا التشوه في دور الجيوش وفي وظيفتها حدا جعل الأمة تضعها في خانة الأنظمة العميلة، وصارت نظرتها للجيوش بعين الغضب والأسى، بل وبلغت الأمة حد اليأس والمقت لتلك الجيوش بسبب صمتها القاتل والمخزي، بينما الدماء تسيل بغزارة في أرض الإسراء، وبينما جيش يهود من يهود يملأ الدنيا ضجيجا وغطرسة وجرائم.
وقد أسميته تشوهاً، لأن المعروف في الدول كلها أن دور الجيوش فيها هو الدفاع والحماية، ولكنه قد صار عرفا في الأذهان، أن هذه الجيوش في الدول العربية ليست للحرب، ولا تخوض الحرب ولا يتوقع منها أن تخوض الحرب، وخصوصا ضد كيان يهود، وليس في تاريخها الحديث ما يوحي بخلاف ذلك، مع أن الجيوش في كل الدنيا هي جهة الاختصاص إذا ما تعلق الأمر بالقتال وحفظ البلاد والعباد.
فليست الأحزاب الروسية مثلا هي التي تخوض الحرب مع أوكرانيا، ولا الحزب الجمهوري أو الديمقراطي هو الذي يخوض حروب أمريكا، بل ولا أحزاب الكيان على كثرتها مثلا هي التي تواجه في ساعة المعارك في هذه الساعات، أما الواقع لدينا فهو مقلوب، إذ نامت الجيوش في ثكناتها، لتخوض الفصائل، ويخوض الأفراد العزل الذين لا يملكون إلا دماءهم وبعض السلاح البدائي، في معركة صارخة التفاوت في القوى مع جيش تقف خلفه جيوش.
هذه النظرة للجيوش، على واقعيتها، وهذا الدور لها هو بالضبط ما يريده الاستعمار، وما أرادته الأنظمة الحاكمة، وخصوصا حالة اليأس من تلك الجيوش، وكل ذلك حتى تخرج الجيوش خروجا أبديا من أي تفكير يتعلق بالتغيير أو بالتحرير.
تجاه هذا الفخ الكبير كان ينبغي التوقف الواعي، فالجيوش ليست جزءاً من الأنظمة، ولا ملكا لها، حتى وإن تم اختطافها وتسخيرها وتوظيفها، لأن الجيوش من حيث طبيعتها إنما هي جزء من الأمة، وهكذا يجب أن تكون، ووظيفيا هي جزء من تركيب الدولة والسلطان، والجيوش تبقى بينما الأنظمة تزول.
بل نستطيع القول بأنه لا يقل عن جريمة اختطاف الجيوش من الحكام، هي جريمة ترك هذه الجيوش مختطفة من الحكام، وذلك عندما تتركها الأمة وتتركها قوى التغيير والتحرير ليمارس بها الطغاة كل الأدوار ضد الأمة من خذلان وتآمر وتسلط.
فتاريخ الجيوش يقول إنها قابلة للتغيير، فتحول الملكيات إلى جمهوريات، وتحول السلطة من حزب إلى حزب، ومن تبعية إلى تبعية لم تكن مفاتيحه سوى الجيوش، بل حتى الجيوش الأفريقية التي عاشت في حضن الاستعمار الفرنسي هي التي طردت النفوذ الفرنسي مؤخرا، فلماذا في بلاد المسلمين بالذات تقصى الجيوش من صورة التغيير ويحرم بها أو الاقتراب منها؟
إن خلاصة هذا الباب، لكل عامل جدي للتغيير وللتحرير، أن الجيوش حتمية لا بد منها، وخاصة فيما يتعلق بفلسطين وتحريرها.
الخيارات البديلة مثلا في غياب الجيوش كانت حلولا سياسية ومعاهدات، ولكنها أفضت إلى تثبيت الكيان وتمكينه، بل هي التي قد منحته فرصة لما نراه من التغول.
في غياب الجيوش اضطر الناس إلى ما يجري الآن تحديدا من أن يأخذ الأفراد والفصائل على عاتقهم مواجهة العدو، هذه الجهود المباركة والبطولات غاية المأمول منها هو أن تحرك الأمة وقواها، وأن تكون الشرارة، ولكن الشرارة لا تكفي، فإن لم يحصل التحرك الكبير، فإننا سنكون أمام إبادة ينفرد بها العدو بالعزل وهذا هو ما يجري الآن حرفيا.
حتى الحراك الشعبي من الأمة إن حصل فإنه سرعان ما سيخبو، طالما أنه لم يستهدف تفعيل القوة الحقيقية بالجيوش، خاصة وأن الجيوش الآن تحتكر القوة كلها، والحكام يحتكرون الجيوش.
ولذلك فإن حزب التحرير عندما تناول قضية فلسطين في طرحه وفي ثقافته، وبناء عليه في عمله، لم يختلف ولم يخالف في أن قضية فلسطين قضية عسكرية جهادية بحتة، ولكن الحشد لها والإعداد، يجب أن يكون حشداً وإعداداً يرقى لمستوى المعركة وما تستلزمه من قوة وقوى فعلية حقيقة ينتج عنها تحرير.
وهو بالتحديد حشد يقوم على انخراط الأمة من خلال انخراط قواتها المسلحة في تلك المعركة، وأن تكون الجيوش بؤرة العمل للتحرير بعد أن تكون بؤرة التغيير، وما عدا ذلك فسنبقى نراوح المكان بين الجولة والأخرى وندفع الأثمان الباهظة في محاولات التحرير.
وبالتالي فإنه بخلاف وبعكس ما قد يتوصل إليه البعض أو يظنه البعض من أن عملية طوفان الأقصى ألغت فكرة الاستنصار بالجيوش، فإنها وحتى بعد مرور عام أكدت المؤكد مما كنا نقول من عدة جهات:
منها أن هذا الكيان هش وبعض ما تملكه الأمة من قوى يكفي لاجتثاثه، ومنها أن الجيوش طالما بقيت في يد الأنظمة، وطالما بقيت تلك الأنظمة، فإن الأمة ستبقى مقيدة، مكبلة وعاجزة، ولذلك لا بد من افتكاكها من أحضان تلك الأنظمة، بل إنه حتى الموقف الغاضب الآن من الجيوش ما هو إلا تأكيد ولو بموقف السلب على دور الجيوش، ولولا أنها ترى فيهم أنهم هم جهة الاختصاص وأهل الفعل لما كان لها هذا الموقف من الغضب ومن العتب.
وبالمقابل، هناك نقطة ينبغي الانتباه لها وهي أن من لم يستطع أخذ الجيوش فإنه لن يستطيع تجاوزها، وهي إن لم تكن مع الأمة في حراكها فستكون ضدها طالما يتحكم بها ويسيطر عليها العملاء، فالأمر ليس فيه حياد، والجيوش إن لم تأخذ دورها في التحرير فسيكون دورها في تعطيل التحرير.
والآن، وإننا وإن كنا لا نزكي الجيوش بموقفها الحالي، ولا نبرؤهم من الإثم العظيم، ولكننا لا ننزع الخيرية منهم، فالأصل أنهم مسلمون، ومنهم من كان في التاريخ الحديث نموذجا، كمحمد صلاح مثلا وماهر الجازي ومن قبله مشهور الجازي، إن الأمة تحفظ أسماء أبنائها من العساكر الذين قاموا بما يجب عليهم، ولو حصل وأن تحرك جيش فإنها سترفعه فوق الرؤوس.
إننا نراهن، وكلنا ثقة بأن عقيدة الإسلام الموجودة في نفوس الجند هي المعول عليه، وعليها الرهان ليوم نسأل الله عز وجل أن يكون قريبا، بل إن الله عز وجل حين خاطب المؤمنين في النفير والنصرة، خاطبهم بتوكيد إيمانهم حتى قبل أن يعاتبهم، أو يحذرهم حين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ﴾.
وبناء على ما سبق كله، فإن مسألة حشد الجيوش وتحريرها عمل يجب أن يأخذ من الأمة ما يستحقه من جهد، فالجيوش هي بؤرة التغيير، وبؤرة التحرير، وصعوبة الأمر لا تنفي الحقيقة، ومن هنا فإن إيجاد الرأي العام، والضغط، واستمرار الضغط على الجيوش لأخذ دورها وإحياء روح الجهاد فيها، هو عمل ينبغي أن تقوم به فعاليات الأمة وعامتها، تماما كما أن تنظيم الجيوش والعمل المباشر فيها لقطف الثمار هو عمل الخاصة.
وأختم، بأن الأبجديات التي يفرضها الإسلام، ويفرضها مفهوم الأمة، وتقررها العقيدة، هو أن فلسطين جزء من أرض الإسلام، وأهلها جزء من أمة الإسلام، وأن قضية تحريرها بالجهاد هي قضية الأمة برمتها وعلى رأسها عسكرها وضباطها وجيوشها، وخطاب الاستنصار فرض واجب، وتلبيته من القادرين عليه كذلك فرض وواجب.
يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
وآخر دعوانا أن الحمد لله، والسلام وعليكم ورحمة الله