- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 87)
السبب الخامس من أسباب التملك
الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد (ج7) تعويض الخليفة
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة السابعة والثمانين, وعنوانها: "الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد: تعويض الخليفة". نتأمل فيها ما جاء في الصفحة الرابعة والعشرين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني. يقول رحمه الله:
خامسا: "تعويض الخليفة، ومن يعتبر عملهم حكما، فإنه لا يكون مقابل عملهم، وإنما هو مقابل حبسهم عن القيام بأعمالهم. وهؤلاء يملكون المال بمجرد أخذه، لأن الله أحله لهم. فقد أخذ أبو بكر مالا، تعويضا عن حبسه عن التجارة، حين طلب منه أن يتفرغ لشؤون المسلمين، وأقره الصحابة على ذلك. فهذه الأموال الخمسة "الصلة، والتعويض على الضرر، والمهر، واللقطة، وتعويض الحكام" مال أخذه الفرد، بغير مقابل من مال، أو جهد، وهذا الأخذ على هذا الوجه من أسباب التملك المشروعة يملك الشخص به المال المأخوذ".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: المال ليس ملكا للحاكم، بل هو في الأصل لله تعالى, وهو سبحانه استخلفنا فيه نتصرف كما شرع لنا, مقياسنا في ذلك الحلال والحرام؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه). (الحديد 7) ولنلاحظ قول الله تعالى: (جعلكم) بصيغة الجمع, ولم يقل: جعل الحاكم, ولا جعله مستخلفا فيه بصيغة المفرد، بل قال: (جعلكم)؛ ولذلك فالدولة نائب وأمين ووكيل عن الأمة في خدمة هذا المال العام.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري: "ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت". وقال رجل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى؟ فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء "يعني الرعية" كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالا, وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم فيأخذ من أموالهم؟ والجواب عن هذا السؤال معروف, ولكنه استعمال للقياس والتقريب, كرد على طلب السائل في التوسعة، والمعنى أنه لا يجوز في هذه الحالة, ولا يجوز في الأخرى، هذا ما طرحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تمثيل أو تصوير المال العام في يد الحاكم.
إنه لا يحل للحاكم, ولا لأي مسؤول أن يأخذ لنفسه إلا ما يفرضه له الناس بالمعروف، إن دولة الخلافة الإسلامية هي التي تكفل الحاجات الأساسية للرعية، وكان عمر رضي الله عنه يحلف ثلاثا ويقول: "والله ما أحد أحق في هذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، ووالله لو بقيت لأوتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه". رواه أحمد في المسند.
إقرار الذمة المالية لأبي بكر الصديق:
تولى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه الحكم, ومن شاء أن يرى جلال الحكم, وعظمة الحاكم, فلينظر أبا بكر غداة استخلافه, إذ خرج من داره حاملا على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب. وفي الطريق يلقاه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهما فيسأله عمر: إلى أين تذهب يا خليفة رسول الله؟ فيجيبه: إلى السوق. قال عمر: ما هذا الذي تصنعه وقد وليت أمر المسلمين؟ قال أبو بكر: أبيع وأشتري لكي أطعم عيالي, فقال عمر: ومن يهتم بأمر الناس؟ فقال أبو بكر: ومن يطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئا من بيت المال. وصحبهما الخليفة إلى المسجد, حيث نودي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, وعرض عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة "بدل تفرغ". وفعلا فرضوا له كفافا: في العام مائتين وخمسين دينارا, وشاة يؤخذ من بطنها, ورأسها وأكارعها!
وجد أبو بكر أن هذا العطاء من بيت المال لا يكفي بيته ولا عياله, فقرر أن يخرج لسوق البقيع للبيع والشراء كعهده سابقا. ذهب عمر بن الخطاب إلى بيت أبي بكر الصديق, فوجد مجموعة من النساء متجمعات أمام بيته؛ ليقضي بينهن في أمر, فانطلق عمر يبحث عن أبي بكر حتى وجده في سوق البقيع، فأخذ عمر بيد أبي بكر قائلا له: تعال ههنا. نظر إليه أبو بكر وقال له: لا حاجة لي في إمارتكم!! رزقتموني ما لا يكفيني ولا يكفي عيالي. قال له عمر: إنا نزيدك. رد أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها. فقال الفاروق: لا نوافق لك على ذلك, وبينما هما يتناقشان حضر علي بن أبي طالب رضي الله عنه, واحتكم أبو بكر وعمر إليه, فرأى علي أن لأبي بكر ما أراد من الزيادة. فوافق عمر واشترط الصديق مشاورة المهاجرين فجمعهم في المسجد. صعد أبو بكر منبر المسجد النبوي ونادى في الناس: أيها الناس إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها, ورأسها وأكارعها, وإن عمر وعليا كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم؟ رد الحاضرون: اللهم نعم قد رضينا ... وعاش أبو بكر بهذا هو وأسرته الكبيرة, حتى بعد أن فتحت للمسلمين أبواب الرزق والرغد, وبدأت خيرات الشام والعراق تفد إلى المدينة! ولم يكن الصديق يلتزم القناعة لمجرد الزهد, بل كانت قناعته جزءا من إيمانه, فهو يأكل اللقمة الحلال, ويحاذر أن يدخل في جوفه كسرة فيها شبهة!
يحدثنا البخاري في صحيحه:"أنه كان لخليفة رسول الله غلام جاءه يوما بشيء من تمر فأكل منه, ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله؟ قال أبو بكر: ما هو؟ قال الغلام: إني كنت قد تكهنت لرجل في الجاهلية, وما أحسن الكهانة, إلا أنني خدعته, وقد لقيني اليوم فأعطاني, فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده في فمه حتى قاء كل شيء في جوفه!". ويضيف صاحب الصفوة إلى ذلك أنه قيل لأبي بكر: "يرحمك الله! كل هذا من أجل لقمة واحدة؟!". فأجاب قائلا: "والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة!".
كان إصرار أبي بكر عظيما على ألا ينال من بيت المال إلا ما يكفيه وأهله بالمعروف! فحين أدركه الموت دعا إليه ابنته عائشة رضي الله عنها وقال لها: "انظري ما زاد في مال أبي بكر منذ ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين!". ترى ماذا كان هناك حتى يشغل بال أبي بكر إلى هذا المدى؟ ماذا ادخر في أيام خلافته من ثراء يخاف أن يلقى به ربه؟! حملت عائشة تركة أبيها فور وفاته, وفور مبايعة عمر, حملتها إلى أمير المؤمنين تنفيذا لوصية أبيها, فما كاد عمر يرى ويسمع حتى انفجر باكيا وقال: "يرحم الله أبا بكر, لقد أتعب كل الذين يجيئون بعده!". يعني بهذا أن الصديق بسلوكه وورعه قد سن نهجا تناهى في العظمة, بحيث يضني بلوغه ومضاهاته كل خليفة يأتي على أثره. ترى ما هو الميراث الذي خلفه الرجل الذي افتدى الإسلام بماله, والخليفة الذي بدأت تنثال في أيامه خيرات الشام والعراق؟ ها هو ذا الميراث الذي خلفه, وأصر على أن يرده إلى بيت المال: بعير, كان يستقي عليه الماء! ومحلب, كان يحلب فيه اللبن! وعباءة, كان يستقبل بها الوفود!
رأي عمر فيما يحل للخليفة من مال المسلمين:
لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبيح من مال المسلمين لنفسه إلا ما يقيم أوده وأود أهله عند الحاجة إليه, فإن رزقه الله ما يغنيه عن بيت المال كف يده عنه. يقول عمر: "ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم, إن استغنيت استعففت, وإن افتقرت أكلت بالمعروف تقرم البهيمة الأعرابية "القضم لا الخضم". أي كما تأكل ماشية البادية قضما بأطراف أسنانها, لا مضغا وطحنا بأضراسها". ولما سئل عما يحل للخليفة من مال الله قال: "إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء, وحلة للصيف, وما أحج به وأعتمر, وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش, ليس بأغناهم, ولا بأفقرهم, ثم أنا بعد رجل من المسلمين".
سبحان الله! لم يدخل منصب الخلافة على النفس الكبيرة لأبي بكر أو لعمر بن الخطاب أي زهو, ولم يحرك لهما رغبة أية رغبة في تغيير أسلوب حياتهما! فأنى لنا بخليفة مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما؟.. إن ذلك لكائن قريبا بإذن الله تعالى!!
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.