- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 88)
كيفية التصرف بالمال: حق التصرف
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة الثامنة والثمانين, وعنوانها: "كيفية التصرف بالمال: حق التصرف". نتأمل فيها ما جاء في الصفحتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
حق التصرف:
يقول رحمه الله: "لقد عرفت الملكية بأنها حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة، يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء، وأخذ العوض عنه. وعلى هذا تكون الملكية هي الحكم الشرعي المقدر بالعين أو المنفعة، أي هي إذن الشارع، فيكون التصرف هو ما ترتب على هذا الحكم الشرعي، أي على الإذن من تمكين المالك من الانتفاع بالشيء، وأخذ العوض عنه. فالتصرف بالملكية مقيد بإذن الشارع، لأن الملكية هي إذن الشارع بالانتفاع. والتصرف هو الانتفاع بالعين.
ولما كان المال لله، والله قد استخلف العبد فيه بإذن منه، كانت حيازة الفرد للمال أشبه بوظيفة، يقوم بها للانتفاع بالمال وتنميته منها بالامتلاك. لأن الفرد حين يملك المال إنما يملكه للانتفاع به، وهو مقيد فيه بحدود الشرع، وليس مطلق التصرف فيه. كما أنه ليس مطلق التصرف في نفس العين، ولو ملكها ملكية عينية. بدليل أنه لو تصرف بالانتفاع بهذا المال تصرفا غير شرعي، بالسفه، والتبذير، كان على الدولة أن تحجر عليه، وتمنعه من هذا التصرف، وأن تسلبه هذه الصلاحية التي منحه الله إياها. وعلى ذلك يكون التصرف بالعين، والانتفاع بها، هو المعنى المراد من ملكيتها، أو هو أثر هذه الملكية. وحق التصرف في العين المملوكة يشمل حق التصرف في تنمية الملك، وحق التصرف بالإنفاق صلة ونفقة".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: نتناول هذا الموضوع من جوانب عدة:
أولا: الحق في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء:
حق الأمر: صح وثبت وصدق. وأحق الله الأمر حقا: أثبته وأوجبه. وهو حق وحقيق بكذا: جدير به. والحق: هو الثابت بلا شك. والحق: النصيب الواجب للفرد أو الجماعة. وهو في اصطلاح الفقهاء ما منحه الشرع للناس وألزمهم بأدائه لمن يستحقه.
ثانيا: أركان الحق أربعة هي:
1. صاحب الحق: وهو من ثبت له الحق. فالبائع هو صاحب الحق في أخذ ثمن السلعة.
2. من عليه الحق: وهو المدين بالحق, فالمشترى مدين بالثمن للبائع.
3. مصدر الحق: هو الشارع الحكيم, فالله هو الذي عين حقوق عباده في القرآن والسنة.
4. محل الحق: وهو المصلحة الثابتة بالشرع, فالمهر حق للزوجة, وأخذها له يحقق مصلحة لها.
ثالثا: ضوابط التصرف بالملكية الفردية:
1. حين يملك الفرد المال يملكه للانتفاع به.
2. الفرد مقيد في المال بحدود الشرع، وليس مطلق التصرف فيه.
3. ليس الفرد مطلق التصرف في العين التي يملكها ملكية عينية.
4. لو تصرف الفرد بالانتفاع بالمال تصرفا غير شرعي، بالسفه، والتبذير، كان على الدولة أن تحجر عليه، وتمنعه من هذا التصرف، وأن تسلبه هذه الصلاحية التي منحه الله إياها.
رابعا: أنواع التصرف بالملكية:
للمالك حق التصرف بملكه بيعا, وإجارة, وإعارة, ووقفا, ووصية, وهبة, وهدية, وما إلى ذلك من أنواع التصرف التي أذن بها الشارع الحكيم.
خامسا: ملكية العين نوعان: تامة, وناقصة.
النوع الأول: الملكية التامة هي ملك الرقبة والمنفعة معا:
ويمكن بيان خصائص الملكية التامة بما يأتي:
1. الملكية التامة حق جامع، يخول صاحبه حق التصرف في العين بيعا وإجارة وإعارة ووقفا.
2. للمالك ملكية تامة حق الانتفاع كاملا غير مقيد بوجه محدد من وجوه الانتفاع الشرعية.
3. يظل المالك متمتعا بسلطتة على الشيء المملوك طالما لم تنتقل هذه الملكية للعين إلى شخص آخر بأي تصرف شرعي أو بالميراث عند موته أو بهلاك هذا الشيء.
4. إن ملكية العين تثبت مؤبدة بأحد الأسباب الشرعية، بمعنى أن ملكية العين لا تقبل التوقيت.
5. مالك العين لا يضمنها إذا أتلفها، لأنه إن ضمن ضمن لنفسه, وهو عمل لا فائدة منه.
النوع الثاني: الملكية الناقصة: هي ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. وهي قسمان:
القسم الأول: ملك العين "الرقبة" وحدها: تكون العين مملوكة لشخص ومنافعها لشخص آخر.
ملك الرقبة وحدها يتميز بالخصائص الآتية:
1. إن ملك العين تنتقل بأحد الأسباب الناقلة للملكية كالبيع والهبة.
2. إن ملكية الرقبة دائمة لا تقبل التوقيت، بخلاف ملك المنفعة فإن التوقيت فيها هو الأصل.
3. إن مالك الرقبة يملك حق الانتفاع بملكه بأي وجه من الوجوه الشرعية.
4. لا يجوز لمالك الرقبه أن يتصرف فيها بتصرف يضر بمالك المنفعة.
5. ينتهي ملك الرقبة بتلفها أو بموت مالكها أو بالتصرف الناقل للملكية فيها.
6. إن ملكية الرقبة تنتهي في نهاية الأمر إلى ملكية تامة بعد انتهاء مدة الانتفاع من مالك المنفعة.
القسم الثاني: ملك المنفعة وحدها: حق الانتفاع الشخصي له أسباب ثلاثة:
1. الإذن العام، كما في الانتفاع بالمرافق العامة كالطرق والمدارس والمستشفيات.
2. الإذن الخاص من مالك العين، سواء أكان لشخص معين باسمه أو غير معين.
3. عقد الإجارة أو الإعارة أو غيرهما إذا شرط فيه الاستيفاء، وسلب منه حق تمليكها لغيره.
سادسا: حق التصرف في العين المملوكة يشمل الأمرين الآتيين:
1. يشمل تنمية الملك.
2. ويشمل الإنفاق صلة ونفقة.
سابعا: أسباب ملك المنفعة خمسة هي:
1. الإباحة: وهي الإذن بالانتفاع بالعين من غير تعاقد كالانتفاع بالطرق والساحات العامة.
2. الإجارة: وهي تمليك المنفعة بعوض. ومن ثم فإن المستأجر يملك منفعة العين المؤجرة خلال مدة الإجارة، فمن استأجر دارا ليسكنها أو سيارة ليركبها ملك منفعتها المنصوص عليها في العقد، فله أن يسكن الدار, وله أن يركب السيارة.
3. الإعارة: وهي تمليك المنفعة بغير عوض. فللمستعير أن ينتفع بنفسه، وليس له إعارة الشيء لغيره إلا إذا أذن المعير بذلك, وليس له إجارته.
4. الوقف: وهو حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد وصرف منفعتها إلى من أراد الواقف.
5. الوصية: وهي تصرف ببعض الملك مؤجل إلى ما بعد الموت.
ثامنا: خصائص ملك المنفعة:
1. إنه يقبل التقييد بالزمان والمكان.
2. إنه لا يقبل التوارث عند الحنفية في جميع صوره. أما عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة, فإنه يورث في بعض الصور.
تاسعا: انتهاء ملك المنفعة بواحد من الأمور الآتية:
1. بانتهاء مدة الانتفاع سواء أكان بإجارة أو إعارة أو وصية أو وقف.
2. بهلاك العين المنتفع بها أو بإصابتها بعيب لا يمكن معه استيفاء المنفعة.
3. بوفاة من له حق الانتفاع بما هو منصوص عليه عند الحنفية.
4. بوفاة المؤجر والمعير "مالك العين" لزوال صفة التمليك عنهما بالموت. أما وفاة الموصي أو الواقف، فلا تأثير له على ملك المنفعة.
عاشرا: تطبيقات الصحابة لأداء الحقوق إلى أصحابها:
في أول خطبة خطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة كان مما قاله فيها: "ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له, وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه".
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيها الناس, أعطوا الحق من أنفسكم, ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلي".
حين قابل عمر بن الخطاب وهو خليفة قاتل أخيه بعد أن أسلم، قال له: أأنت قاتل زيد بن الخطاب؟ قال. نعم يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أحبك أبدا، فقال أبو مريم: أوتمنعني بذلك حقا هو لي، قال: لا. قال: إذا يا أمير المؤمنين إنما يأسى على الحب النساء. يريد أنه ما دام لا يظلمه الخليفة فلا يعنيه أحبه أم كرهه، لأن النساء هن اللائي يأسفن على الحب. ولا لوم على عمر في التعبير عن عواطفه التي لا يملكها تجاه قاتل أخيه، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوحشي قاتل عمه حمزة بن عبد المطلب حين رآه بعدما أسلم: غيب وجهك عني يا وحشي لا أراك! ولكن للقصة دلالة على ضبط النفس والتجرد المطلق لعمر بن الخطاب، فلم يحمله غضبه من قاتل أخيه على ظلمه وحرمانه حقه.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.