- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
أمريكا والصين والحرب الباردة
الخبر:
تناقلت وسائل الإعلام أن أمريكا أقدمت على إغلاق قنصلية الصين في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية اعتبارا من يوم الجمعة 2020/7/24م متهمة إياها بسرقة الملكية الفكرية، واعتبرت الصين أن هذه الخطوة تعتبر استفزازا سياسيا للصين.
التعليق:
تأتي هذه الخطوة كجزء من سلسلة أعمال تقوم بها أمريكا لإدخال الصين في حرب باردة كما ورد على لسان وزير خارجية الصين في مقالة الواشنطن بوست بتاريخ 2019/5/24م حيث قال "يجب على أمريكا الكف عن محاولاتها اليائسة لتغيير الصين وجر البلدين إلى حافة حرب باردة"، في محاولة للتأكيد على عدم رغبة الصين في الدخول مع أمريكا في صراع حقيقي أو حتى في اتفاق حول حرب باردة كما حصل بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا إبان حكم خروتشوف زعيم الاتحاد السوفيتي وكندي رئيس الولايات المتحدة في ستينات القرن الماضي، والذي انتهى بتفكك الاتحاد السوفيتي وتحول روسيا إلى النظام الرأسمالي والتخلي عن الاشتراكية.
وأكد وزير خارجية الصين وانغ أن "الصين ليس لديها الرغبة للتغيير أو النية لتسنم مركز الولايات المتحدة" وعلى أمريكا أن تتوقف عن محاولة صرف مليار ونصف المليار صيني عن حركة التقدم. وكان ترامب قد صرح لمؤتمر صحفي أن عدوان الصين المتمثل بنشر فيروس كورونا أشد ألما وخطورة من هجوم اليابان على بيرل هاربر وهجمات التاسع من أيلول 2001. وكانت مجلة أتلانتك والتي تعتبر مما يعرف في أمريكا "بلدوزر التفكير Think Tank" قد نشرت مقالا في 2018/10/9م يناقش أيهما يعتبر العدو الأول: روسيا أو الصين؟
والمتتبع لتصرفات وأقوال حكومة ترامب يرى أنها سعت منذ مجيئها إلى استعداء الصين، واستفزازها سياسيا وتجاريا من أجل جرها إلى حرب باردة بين الطرفين، بحيث تدخل الدولتان في سباق تسلح، وتنافس تجاري شديد، وعداء واضح في المحافل الدولية حول قضايا حقوق الإنسان ودكتاتورية الحزب الحاكم كما ورد في كلمة مطولة لمايك بنس نائب ترامب حيث كرر التركيز على مخاطر الصين من حيث عداؤها للدين، واستعداؤها لجيرانها في غرب الأطلسي، وتغولها التجاري، ودعمها لأنظمة طاغية في العالم.
وكان ترامب قد فرض عقوبات اقتصادية على عملاق الاتصالات العالمي هواوي وفرض ضرائب جمركية عالية على التجارة الصينية مع أمريكا. وأخيرا جاءت جائحة كورونا لتعتبرها أمريكا منصة حيوية لمهاجمة الصين واتهامها بالعمل على نشر الفيروس عالميا من خلال إخفاء معلومات حيوية عن الفيروس وانتشاره السريع. ومع ذلك لا تزال الصين تحاول جاهدة الابتعاد عن شبح حرب باردة تدخل العالم في نظام دولي مرعب قد يكون أسوأ من فترة الحرب الباردة الأمريكية السوفياتية، وقد عبر نائب وزير خارجية الصين عن موقف الصين في مقال نشرته يورونيوز في 2019/12/9م بقوله "إن العالم يريد من الصين وأمريكا أن تنهي الحرب التجارية، وهذه يقتضي الانفتاح والتعاون بدلا من التناقض والدخول في حرب باردة".
والظاهر أن أمريكا منذ مجيء ترامب قد بدأت بالفعل بالبحث عن عدو جديد تتخذه هدفا ومحورا لسياستها المتجهة دوما للسيطرة والهيمنة على النظام الدولي. وتعود أمريكا مرة أخرى للصين باعتبارها لاعبا مهما في العلاقات الدولية وتصلح أن تلعب دور العدو الذي اعتادت أمريكا أن لا تعيش بدونه. وقد كانت أمريكا قد راودتها فكرة استعداء الصين وجرها لحرب باردة بعد أن تخلى الروس عن لعب هذا الدور بعد أن قاموا بتفكيك الاتحاد السوفيتي. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بتاريخ 1997/4/6م بعنوان "بحثنا عن عدو ووجدنا الصين". وعلق المقال على مقولة المحلل السياسي الروسي السوفيتي جورجي أرباتوف بالقول "إن جورباتشوف سيقوم بعمل لا يمكن مغفرته من قبل أمريكا وهو حرمانها من العدو الاستراتيجي". ومثل ذلك علق كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق إبان رئاسة نيكسون بأن أمريكا كان عليها أن لا تدع الاتحاد السوفيتي ينهار وينسحب من الساحة الدولية. وتعليقا على حديث أرباتوف تقول صحيفة نيويورك تايمز في مقالها إن الروس لم يكونوا يعلمون بمدى عبقرية أمريكا فقد رتبت أمر العدو واستهدفت الصين بدلا من روسيا. وذلك من خلال تشجيع الصين ودعمها لبناء اقتصاد متطور ومنظومة سلاح قوية، تمشيا مع نظرية لينين المشهورة "إن الرأسماليين مستعدون أن يصنعوا الحبل ويبيعوه للاشتراكيين ليشنقوا أنفسهم به".
فالعبقرية التي تحدث عنها ستيفن ايرلنقر في افتتاحية نيويورك تايمز سنة 1997م اقتضت أن تنمو الصين وتتطور إلى الدرجة التي تصلح بها أن تكون منافسا على المسرح الدولي، ولديها مقومات عدو استراتيجي. فكما هو الملاكم من الدرجة الأولى يسعى دائما لمقابلة أنداد له على خشبة المسرح ليزداد شهرة ويكسب مالا أكثر، فهو لا يقبل مبارزة من هو أدنى منه بكثير، ويحاول أن لا يبارز من لديه قوة حقيقية فيخسر البطولة.
ولكن أمريكا بوصفها الدولة الأولى التي تسعى لاستمرار هيمنتها على العالم، لا تستطيع أن تستمر بتحقيق أهدافها الاستعمارية والهيمنة المطلقة دون وجود عدو استراتيجي، كما عبر عن ذلك زبغنيو بريجنسكي في كتابه "خيار أمريكا بين الهيمنة والقيادة". وإلى أن تصبح الصين قوية إلى الحد الذي يسمح باستعدائها ولكن دون أن تمتلك القوة الكافية لزحزحة أمريكا، عمدت أمريكا ومنذ ستينات القرن الماضي على اتخاذ الإسلام السياسي تحت مظلة ما أسموه الإرهاب، ليكون هو العدو الوهمي الذي تطارده أمريكا في العالم، وترهب من خلاله الدول والشعوب، وتحكم قبضتها على الجميع بدون استثناء.
ولم تأل أمريكا جهدا خاصة منذ أحداث أيلول 2001 وضرب برجي التجارة الدولية، لم تأل جهدا في التركيز الدائم على الإرهاب بوصفه العدو الأكبر والأهم والذي من خلال تتبعه ومحاربته الدائمة تمنكت أمريكا من فرض هيمنتها على النظام العالمي بدون منازع، واستطاعت كسب مناطق نفوذ كانت مستعصية عليها، وجرّت إلى حظيرتها من كان بعيدا عنها. واستمرت بذلك إلى أن انتهت أخيرا من آخر حلقة من حلقات عداوة (الإرهاب) الإسلامي بعد أن أسدلت الستار على تنظيم الدولة في سوريا.
والآن عادت تدق ناقوس الخطر الصيني؛ الصين العملاقة اقتصاديا، الصين المسيطرة على أكبر نسبة من التجارة الدولية، الصين التي أصبحت قوتها الإقليمية تهدد جاراتها، الصين التي بدأت تدخل عالم الفضاء، وتسيطر على منصات الأمن السيبراني، الصين التي تهدد الاقتصاد الأمريكي، وتستهوي رأس المال الأمريكي للاستثمار، الصين التي تملك فائضا هائلا من الدولارات، الصين التي أصبحت تناسب القياس الأمريكي لعدو قوي ليكون طرفا في حرب باردة، نتيجتها محسومة سلفا لأمريكا، أو هكذا تفكر آلة الهيمنة الأمريكية.
أمريكا ممثلة بإدارة ترامب لا تزال تصر على اتخاذ الصين عدوا، والصين لا تزال تنأى بنفسها عن هذا الدور الذي تعلم تماما أنه سيستنزف قواها ومالها واقتصادها، في بناء ترسانة أسلحة لا مجال لاستعمالها، والإنفاق على عسكرة لن يكون هناك استفادة منها، وبدلا من نمو اقتصادي قوي، ستعود كما عادت روسيا من قبل بخفي حنين.
فهل ستنجح أمريكا بجرّ الصين إلى حلبة الصراع؟ وهل سيصبح العالم رهينة لصراع ينذر دائما بخطر لن يتحقق، ويحذر من نار لن تشتعل، ويجعل العالم يقف على رؤوس أصابعه حذرا ورهبة؟
أم أن العالم سيظهر بزوغ نظام عالمي من نوع جديد تتكسر فيه عصي اليوم، وتنهار عمالقة الصراع الدولي كما انهارت عاد وثمود وفرعون؟ ويظهر الفجر من جديد ولو بعد ليال عشر من الهيمنة الظالمة؟
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 6-14]
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد جيلاني