- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية"
الحلقة الثانية والسبعون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية". ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو: "أحاسنكم أخلاقا" وقد سبق الحديث عن أحد عشر من الأخلاق الحسنة:
ثاني عشر: الأمانة: قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. (النساء58) وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا، فقال: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح" متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه: "قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم.
وروى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما, وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال, ثم علموا من القرآن, ثم علموا من السنة, وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها مثل أثر الوكت, ثم ينام النومة فتقبض, فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك, فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء, فيصبح الناس يتبايعون, فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا, ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت, لئن كان مسلما رده الإسلام, وإن كان نصرانيا رده علي ساعيه, فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا". قال الأصمعي، وأبو عمرو الجاحظ وغيرهما: جذر قلوب الرجال: الجذر الأصل من كل شيء. والوكت: أثر الشيء اليسير منه. والمجل: أثر العمل في الكف إذا غلظ, أو هو تقرح الجلد, وتكون ماء بين الجلد واللحم وظهور ما يشبه البثور.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن حوله من أمته: "اكفلوا لي بست أكفل لكم الجنة، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: الصلاة، والزكاة، والأمانة، والفرج، والبطن، واللسان" رواه الطبراني وقال المنذري: إسناده لا بأس به، وحسنه الهيثمي.
وروى الطبراني في المعجم الكبير عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكفلوا لي بست أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم".
وقد بين الله تعالى في سورة الأحزاب عظم الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض وحملها الإنسان الذي كان يجهل ثقل حملها: فقال جل من قائل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}. (الأحزاب 71- 73)
فمن خلال تلاوتنا للآيات السابقة, نلحظ ملحوظة دقيقة في غاية الدقة, وفي غاية الأهمية في آن واحد, ينبغي أن ننبه إليها لأنها تلقي الضوء على معنى الأمانة الذي كثر خوض المفسرين فيه, وهي أن آية الأمانة سبقتها آية تبين فوز من أطاع الله ورسوله, وهي قوله تعالى: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}. (الأحزاب71) ثم جاءت الآية التي ذكرت فيها الأمانة وهي قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}. (الأحزاب72) وتلتها آية تبين أن العذاب مصير من عصى الله ورسوله, وهي قوله تعالى:
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}. (الأحزاب73) مما يجعلنا نرجح أن معنى الأمانة في الآية الكريمة هو الطاعة والانقياد لأوامر الله ونواهيه, أي الالتزام بالتكاليف الشرعية.
فالأمانة هي التكاليف الشرعية، وقيل: طاعتها أي طاعة التكاليف الشرعية، فهي تشمل كل الأوامر والنواهي، فالخليفة مؤتمن، وكذلك الوالي، والعامل، والقاضي، وعضو مجلس الشورى، وأمير الجيش، والسفير، والمصلي، والصائم، والحاج، والمزكي، وحامل الدعوة، ومعلم الناس الخير، وطالب العلم، والمفتي، ومتولي الوقف، وصاحب بيت المال، والبائع، والخارص، والعامل على الصدقات، والذي يمسح الأرض الخراجية، والمجتهد، والمحدث، والمؤرخ، وصاحب السـير، والعامل على الغنائم، ومدير دائرة الصناعة، ووزير التفويض، ووزير التنفيذ، والمترجم، ومعلم الصبيان في الكتاب، والرجل على أهل بيته، والمرأة في بيت زوجها، والطبيب والقابلة، والصيدلي، والمرضعة، والشريك، والأجير، ومدير دار الخلافة، ومن تحت يده من المدراء، كمدير المشتريات، ومدير بيت الضيافة، ومدير الكراج، ومدير المطبخ، ومدير قسم الصيانة، والمحامي، والرجل يفضي إلى زوجته، وصاحب السر، والإعلامي، ولاقط الأخبار، والصحفي الذي يسمع أخبار الناس بحكم عمله في التلفون والإنترنت، وغيرهم وهكذا، فالأمانة شأنها عظيم ومجالها واسع، ولا تخلو ذمة مكلف من شيء منها، قل أو كثر، كبر أو صغر.
فإذا التزم المسلم بالأخلاق الفاضلة, باعتبارها أحكاما شرعية واجبة الاتباع طاعة لله: امتثالا لأوامره, واجتنابا لنواهيه, فإنه يسمو ويرقى في المرتقى السامي من علي إلى أعلى, ومن شاهق إلى شاهق, ولله در الناظم حيث قال:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما
دم طـيبا زد في تـقى ضع ظـالما
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي