- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 3)
مكونات الشخصية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
مستمعينا الكرام مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "مكونات الشخصية".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "الشخصية في كل إنسان تتألف من عقليته ونفسيته، ولا دخل لشكله ولا جسمه ولا هندامه ولا غير ذلك، فكلها قشور. ومن السطحية أن يظن أحد أنها عامل من عوامل الشخصية أو تؤثر في الشخصية. ذلك أن الإنسان يتميز بعقله، وسلوكه هو الذي يدل على ارتفاعه أو انخفاضه. وبما أن سلوك الإنسان في الحياة إنما هو بحسب مفاهيمه، فيكون سلوكه مرتبطاً بمفاهيمه ارتباطًا حتميًا لا ينفصل عنها. والسلوك هو أعمال الإنسان التي يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية، فهو سائر بحسب الميول الموجودة عنده للإشباع سيرًا حتميًا. وعلى ذلك تكون مفاهيمه وميوله هي قوام شخصيته".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: تتكون شخصية الإنسان من عقليته ونفسيته. ومن السذاجة بمكان، بل من السطحية أن تحكم على الإنسان بأنه مرتفع أو منخفض فكريا، أو أنه صاحب شخصية على قدر عال من العلم، والفهم من الوهلة الأولى بمجرد رؤيتك الظاهرية له، حيث تراه يلبس هنداما أنيقًا، أو جبة وعمامة، أو يطلق لحية، أو أنه ممَّن لا يكادون يفهمون قولا؛ لمجرد أنه يلبس ثوبا باليًا مرقعًا، فقد حصل أن رأى طبيب نسائي أحد شبابنا حاملي الدعوة يصعد الدرج المؤدي إلى عيادته كان هذا الرجل فقيرا يلبس ثيابا بالية فظنه الطبيب قد جاء متسولا، فقال له: الله يعطيك. قال الرجل: أنا قادم إليك لأعطيك، لا لآخذ منك!! فقال له الطبيب: وماذا ستعطيني؟ أجاب الرجل: سأعطيك شيئا يجعلك تفهم، فإني أراك قليل الفهم، ولدي دليل على ذلك! قال الطبيب: وما دليلك؟ قال الرجل: أنت طبيب تعالج النساء، وقد جعلت عيادتك في الطابق الرابع، ولا يوجد مصعد كهربائي يوصل المريضة إلى عيادتك، فالمرأة الحامل تضع مولودها على الدرج قبل أن تصل إليك!! ثم إنك حكمت علي لمجرد رؤيتك لمظهري، فهل أنا على حق حين وصفتك بأنك قليل الفهم؟ قال الطبيب: والله إنك لعلى حق. هات ما أردت أن تعطيني إياه!!
مما سبق يتبين أن المظهر الخارجي للإنسان وملابسه لا دخل لها في الحكم على شخصية الإنسان بأنها راقية أو غير راقية، فكلها قشور إن لم يكن صاحبها متميزًا بعلمه، وعقله، وتفكيره المستنير الذي يضبط سلوكه في الحياة، فيسيره بحسب مفاهيمه وميوله المستندة إلى عقيدته ومبدئه الذي آمن به.
كان العالم الجليل أبو حنيفة يجلس مع تلامذته في المسجد. وكان يمد رجليه بسبب آلام مزمنة في الركبة، وكان قد استأذن طلابه أن يمد رجليه لأجل ذاك العذر. وبينما هو يعطي الدرس، جاء إلى المجلس رجل عليه أمارات الوقار والحشمة. فقد كان يلبس ملابس بيضاء نظيفة، ذا لحية كثّة عظيمة، فجلس بين تلامذة الإمام. فما كان من أبي حنيفة إلّا أن عَقص رجليه إلى الخلف، ثم طواهما، وتربّع تَربّع الأديب الجليل أمام ذلك الشيخ الوقور، وقد كان يعطي درساً عن دخول وقت صلاة الفجر. وكان التلامذة يكتبون ما يقوله الإمام، وكان الشيخ الوقور، ضيف الحلقة، يراقبهم وينظر إليهم.
فقال الضيف لأبي حنيفة من دون سابق استئذان: "يا أبا حنيفة إني سائلك فأجبني". فشعر أبو حنيفة أنه أمام مسئول ربّاني ذي علم واسع، واطلاع عظيم، فقال له: "تفضل واسأل".
فقال الرجل: "أجبني إن كنت عالماً يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يفطر الصائم؟". ظنّ أبو حنيفة أن السؤال فيه مكيدة معينة أو نكتة عميقة لا يدركها علمه. فأجابه على حذر: "يفطر إذا غربت الشمس".
فقال الرجل ووجهه ينطق بالجدِّ والحزم والعجلة، وكأنه وجد على أبي حنيفة حجة بالغة وممسكاً محرجاً: "وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يفطر الصائم؟"!
بعد أن تكشّف الأمر، وظهر ما في الصدور، وبان ما وراء اللباس الوقور، قال أبو حنيفة قولته المشهورة التي ذهبت مثلاً وقد كُتِبَتْ في طيّات مجلدات السِّيَر بماء الذهب: "آنَ لأبي حنيفة أن يمد رجليه".
الشخصية الإسلامية كي تكون متميزة لا بد أن يتحد مكوناها: العقلية والنفسية بمعنى أن يكون الأساس الذي تقوم عليه العقلية هو الأساس نفسه الذي تقوم عليه النفسية. بذلك تكون الشخصية متزنة. أما إذا تناقضت المكونات فإنها تكون شخصية مضطربة!!
والشخصية الإسلامية تتسم بالشجاعة، والجرأة على قول كلمة الحق، والثبات على المبدأ. وأولى الناس بقول كلمة الحق، والثبات على الحق هم العلماء. قال الإمام أحمد - رحمه الله-: "إذا سكت العالم تقيةً، والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟؟".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» وقد أخذ الله على العلماء ميثاق بيان الحق للناس، وعدم كتمانه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ).
وقد ضرب العلماء من شباب حزب التحرير أروع الأمثلة في القيام بالدور المنوط بهم في بيان الحق للناس، بل بالصدع به في وجوه الحكام الطواغيت!! فهذا الشيخ عبد العزيز البدري - رحمه الله - يدفع حياته ثمنا لقول كلمة الحق، فينال الشهادة في سبيل الله!!
وهذا الشيخ أحمد الداعور - رحمه الله - يصدع بقول كلمة الحق بنقض الدستور المدني الأردني - ونقضه يعني خلعه من جذوره - وقد لاقى الشيخ أحمد الداعور ما لاقى في سبيل الجهر بقول كلمة الحق، فجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء!!
وهؤلاء ثلة مؤمنة، بل كوكبة كريمة من شباب حزب التحرير أرسلهم أمير حزب التحرير، لمحاسبة القذافي الذي تجرأ على حذف كلمات من آيات القرآن الكريم، وإنكار السنة النبوية الشريفة؛ فما كان من هذا الطاغية إلا أن أعدمهم فارتقوا إلى العلياء شهداء، وقد جرى إعدام هؤلاء في المدارس والجامعات، أمام الأساتذة والتلاميذ، وأمام أهليهم وأولادهم، وقد أنزل أحدهم وفيه بقية من رمق بعد إعدامه، فأعادوا تعليقه ثانية، ثم أنزلوه وربطوه بسيارة فأخذت تجره خلفها، على مشهد من أهله وأولاده، وعلى مشهد من الأساتذة والتلاميذ.
كل جريمة هؤلاء الشباب الثلاثة عشر أنهم من حزب التحرير، وأنهم يحملون الإسلام، ويعملون لإقامة الخلافة الإسلامية، فقد أصبح حمل الإسلام اليوم، والعمل لإعادة حكم الله إلى الأرض جريمة عند حكام المسلمين، الظالمين الفسقة الفجرة.
نسأل الله أن يجعل دمهم دم شهادة، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يعلي منزلتهم وأن يجعلهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن يعظم الله لنا ولأهلهم الأجر، وأن يلهمنا وإياهم الصبر، كما نسأله تعالى أن يجعل دمهم بشير خير للإسلام والمسلمين، وأن يكون تباشير للنصر، وإقامة الخلافة، ولإشراق نور الإسلام، وعودته إلى واقع الحياة.
تعمل الآلة الإعلامية العالمية هذه الأيام، في إطار التخوف من عودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، بدعم من الحكام الرويبضات على محاربة أصحاب هذا المنهج منهج الثابتين على الحق، الصادعين به، والقابضين على دينهم كالقابض على الجمر، وذلك بإسقاط هيبة العلماء الذين ينتظر منهم أن يكونوا هم محل القدوة والتأسي في الأمة؛ يشنون عليهم حربًا شرسة بلا هوادة، يعتقلونهم، ويسجنونهم، حتى الموالين لهم لم يسلموا من حربهم، فإما أن يقولوا ما يرضي أسيادهم الكفار، وإلا فالسجون تنتظرهم!!
فهذا عدو الله الكافر نعوم تشومسكي الكاتب والباحث اليهودي يصدق في وصف ما تقوم به أمريكا بأنها: "تقود العالم من حرب إلى حرب"، وهذا إمام وخطيب المسجد الحرام الحافظ لكتاب الله، الذي يَبكي ويُبكي الملايين من الناس ممن يُصلون خلفه يُقِرُّ بأن دولة الكفر أمريكا "تقود العالم إلى برِّ الأمان". لست أدري أيَّ أمانٍ يقصد!! عندما يصبح الدين على هيئة لحية طويلة وعمامة فإن الضياع مؤكد.
وقد شاهد العالم كله، واستمع إلى ما قاله من وصفوا بأنهم علماء الفضائيات حين طلبوا المحكمة، فكان موقفهم ضعيفًا، لم يستمدوا قوة الإمام أحمد بن حنبل في الصدع بالحق، والأخطر من ذلك أنهم لم يدافعوا عن مبدأ الحاكمية لله تعالى، ووصفوا السيسي بأنه ولي الأمر. فإن كانوا قد قالوا ذلك تقية، فما ينبغي لمن يتصدر الجماهير أن يأخذ بهذه التقية، لما لها من أثر في تضليل الرأي العام، وإن قالوها قناعة، فالأولى بهم مراجعة عقيدتهم وفقههم ومنهجهم!!
تطاول علماء الفضائيات هؤلاء على الداعية سيد قطب الذي يمثل منهجنا منهج الثابتين على الحق، وقد دخل المحكمة الناصريّة وهو على اليقين بحكم الإعدام بكبرياء المؤمن، وعظمة المجاهد المخلص، وكأنّه ذهب ليحاكم الطاغوت بقوة الحقّ، لا ليحاكمه الطاغوت؛ فلم يلن، ولم يعط الدنيّة في دينه، ولم يساوم على مبدئه. رحم الله سيد قطب الذي كان قد قال شعرًا:
قد اختارنا الله في دعوته ... وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهــم ... ومنا الحفيــظ على ذمته
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.