- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مؤسّسة الزواج بين الحقوق والواجبات في ميزان الشرع
سبحان الذي جعل قاعدة الزّوجيّة في الخلق والحياة دليلا على عظمته جلّ وعلا ووحدانيّته المطلقة وتفرّده بصفاته عن مخلوقاته التي لا تستمد قوامها من ذاتها بل تفتقر افتقارا مزدوجا إلى خالق يوجدها ومخلوق بالتقائه يجعل لوجودها له معنى. قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]. ومن آياته كذلك أن خلق الزوجين الذّكر والأنثى وجعل الزوجين في الإنسان شقّين للنفس الواحدة ليسكن كلٌّ منهما إلى الآخر ويأنس به فيرتاح، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189].
والزّواج في الإسلام ينأى عن أن يكون مجرّد عقد قانونيّ بين الرّجل والمرأة بل يتجاوزه ليكون عقدا يربط حياتهما بطاعة الله تعالى وجعله سبحانه الفيصل بينهما من خلال تحكيم كتابه وسنّة نبيّه عليه أفضل الصّلاة والسّلام. وقد صاغ الإسلام النظام الذي تسير به مؤسّسة الزّواج وما يترتّب عليها من أحكام بمجرد انعقادها، وبيّن الحقوق والواجبات المنوطة بالطرفين المتعاقدين فيها، ووزّع الاختصاصات والتّكاليف والوظائف حسب التنوّع في التكوين والخصائص. وهذا التنويع في التوزيع هو الذي يخلق التّوازن والتكامل ويُقصي الندّية ليكون الجوّ العام في هذه المؤسسة التّناغم والانسجام. ولذلك كان من المهم على المقبلَيْن على الزواج أن تكون لديهما الرؤية الزواجية واضحة جليّة ويستوْعبانها كما حددتها المنظومة التشريعية الإسلامية ليكونا مؤهّلين لبناء هذه المؤسسة وجعل الأحكام الربّانيّة مرجعا في التأسيس والمعالجة والتطوير.
وقد كرَّم الإسلام الإنسان عامّة ومنح المرأة تمشّيا مع هذه النظرة كامل حقوقها دون أن تحتاج لأوصياء عليها يطالبون بذلك بل منحها إيّاها اعتبارا لمكانتها وفرض عليها في المقابل عددا من الواجبات. فكَمَا من حقّها اختيار الزّوج، وهبها الإسلام بعد عقد القران من الحقوق منها ما كانت معنويّة كحسن المعاملة ولين القول والمعاشرة بالمعروف وعدم الإضرار بها وإن كرهها مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: 19]. والمعروف أوسع دائرة من المودّة لأنّه ليس ضروريّا أن يكون عن حبّ، فحتّى لو تعثّرت العلاقة يبقى المعروف همزةً للوصل، ويقول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: «الله الله فِي النّسَاء، فإنّهنَّ عَوانٌ في أيدِيكمْ، أَخذتُمُوهُنَّ بأمانةِ الله، وَاسْتَحلَلْتمْ فرُوجهُنًّ بكَلِمَةِ الله». ومنها ما كانت مادّية مثل المهر الذي يحقّ للزوجة عند العقد عليها، وهو عطيّة فرضها الله للمرأة بمثابة تعبير رمزي عن إعزازها وإكرامها وهو ليس مُثامنة ولا مُبايعة بل يُعطى عن طيب خاطر إبداءً لرغبة الرجل في الاقتران بها وليس مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية، قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النّساء: 4]. ومن حقّها كذلك النّفقة، فلا يخصّ الرّجل نفسه بالطّعام والكسوة دونها بل ينفق عليها كما ينفق على نفسه وفي حدود المستطاع، قال الله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾ [الطّلاق: 7]، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوْ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» رواه أبو داود. فلا يجب بذلك على المرأة العمل لتنفق على نفسها بل كان لزاما على زوجها سدّ حاجاتها من مأكل وملبس ومسكن. وهذا على سبيل الذّكر لا الحصر...
وكما للنّساء على الرّجال حقوق، فعليهنّ مثل الذي لهنّ ليؤدّي كلّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:228]. وممّا أوجبه الإسلام على المرأة على سبيل المثال طاعة الزوج ما لم تكن في معصية والمحافظة على عرضه وماله وألاّ تُدْخل البيت أحدا يكرهه وألاّ تخرج إلاّ بإذنه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما اسْتفادَ امرِؤٌ مسلمٌ فَائدَة بعد الإسْلامِ أفضل من زوجةٍ مسلِمةٍ تَسرُّهُ إذا نَظَرَ إليْهَا، وتُطِيعُهُ إذا أمرَهَا، وتَحْفَظهُ إذا غابَ عنهَا في نفسهَا ومالِه». وقوامة الرّجل على أهله هي قوامة رعاية بما خصّه الله به من خصائص جسمية وقدرة على تحمل المشاق التي لا تتحملها المرأة وبما أوجب عليه من نفقات مالية، قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]. ولم يترك الإسلام مسألة تتعلّق بالمؤسّسة الزّوجيّة إلا وأصّلها وفصّلها ليكون الزّوجان على هدى وبيّنة. وأجمل توصيف لهذه العلاقة أن تكون صحبة فيها سكنٌ واطمئنان وقودها المودّة والرّحمة والمعروف، تذوب في كنفها الحسابات فيصير الأخذ عطاءً ما دام في طاعة الحقّ سبحانه. ومن بلاغة الآيات القرآنيّة أن وصفت العقد الذي يربط الزوجين بالميثاق الغليظ لأنّه معاهدة على الوفاء والاستمرار ودلالة على متانة الرّابطة وصلابتها، وهو عين الوصف الذي ألحقه الله تعالى بالميثاق الذي أخذه من النبيين ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب: 7].
إن هذا الميثاق الغليظ لا يمكن أن يُنقض في ظل هذه التنظيمات الدقيقة التي منّ الله بها علينا والتي تناولت كلّ جزئيّة تقوم عليها مؤسّسة الزّواج. هذه الأحكام الربانية التي تنظّم العلاقة بين الزّوجين هي دعائم الأسرة المسلمة وهي الحصن الذي تصان بها ويُصان بها المجتمع، فهل نرقى على شرع الله ونرضى بما سواه، أنستبدل بالذي هو خير مدوّناتٍ للأسرة والأحوال الشخصيّة ومواثيق واتّفاقيّات دوليّة؟! أنحتكم إلى تشريعات بشريّة تستند إلى هوى وانفعالات البعض وتحقّق مصالح وأغراض البعض الآخر؟!
وفي الختام، لا يسعنا إلاّ أن نقول داعين الله تعالى: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
م. درة البكوش