- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحراك الأردني: حتى يلج الجمل في سم الخياط
الخبر:
شهدت الأردن اعتصامات متزايدة مساء كل خميس منذ بداية شهر كانون الأول احتجاجا على الفقر، والفساد، والقمع، والتهميش، والبطالة وغيرها من القضايا التي تتعلق بعيش الناس.
التعليق:
لا شك أن الدولة الأردنية قد وصلت إلى مرحلة الإفلاس التام. فلم تعد على حافة أو شفير الإفلاس فحسب، بل أفلست تماما. فيكفي لأي شخص يمر بشوارع وطرق الأردن في مختلف المدن وما بين المدن ليرى بأم عينه ما وصلت له حالة أهم ركن من أركان البنية التحتية، من انهيار وخراب وتدمير... ونظرة على حجم الدين الخارجي والداخلي تجعلك أكثر قناعة أن الدولة لم تعد قادرة على القيام بأعباء الدين ماليا، وعاجزة عن الخروج من بين فكي الدائنين سياسيا. وقضية فساد واحدة من حجم قضية التبغ تكشف عن مدى تمدد شبكة الفساد أفقيا وعموديا، فكلما كشف عن متورط جديد صاح الناس الله أكبر حتى هذا! فليس غريبا أن يخرج الناس فرادى وجماعات تعبيرا عن سخطهم لما وصلت إليه حال هذه الدولة. وليس مستهجنا أن تجد من يوجه الهتافات إلى المتسببين بهذه المأساة من أعلى درجات الهرم إلى أدناها.
والناظر إلى واقع الدولة الأردنية يجد أنها منذ أن وجدت وإلى هذه اللحظة لم يتكون فيها من مقومات الدول إلا فئة حاكمة تتمتع بكافة السلطات، وشعب لا يربطه بالحاكم أي عقد من أي نوع سواء أكان عقدا اجتماعيا كما في الدولة المدنية أم عقد بيعة كما في الدولة الإسلامية. وبقي وجود كيانه مرتبطا ارتباطا وثيقا بالأحوال والظروف السياسية من حوله. فمشكلة ضياع واحتلال فلسطين جعلت من الأردن الملاذ الأكبر لاستيعاب الصدمة وآثار الاحتلال. والحرب الأهلية في لبنان مطلع الثمانينات جعلت من الأردن واقيا للصدمة وآثار الحرب. ثم حرب الكويت مطلع التسعينات جعلت من الأردن ملجأ لمن تم تهجيرهم من الكويت بسبب الحرب. ومن بعدها حرب احتلال العراق مرة أخرى كان الأردن هو واقي الصدمات. وأخيرا محاربة الثورة في سوريا جعلت من الأردن ملاذا شعبيا لأهل سوريا. وهكذا فكأنما هذا الكيان أريد له أن يستمد ديمومته من القضايا الآنية التي قد تنشأ في المحيط الجغرافي العربي، أو القضايا طويلة الأمد كقضية فلسطين.
ومقابل هذا الدور الذي لعبه الأردن تم تمويله ماليا على مدى العقود التي عاشتها الدولة، من خلال اتفاقيات ثنائية، وقرارات جامعة الدول العربية، ومن ورائها ترتيب بريطانيا وموافقة أمريكا على تمويل الأردن ليبقى قادرا على تأدية دوره. من هنا لم يعبأ حاكم الأردن بغض النظر من هو هذا الحاكم حقيقة، لم يعبأ ببناء بنية قادرة على استمرار الكيان ذاتيا ورعاية شؤون الناس بشكل دائم. وليس من المستبعد أن الجهة التي أنشأت الأردن ابتداء وأرادت منه أن يلعب دور واقي الصدمات، هي التي أوعزت ورتبت للأردن أن يبقى غير قادر على الاعتماد على ذاته وبناء قوته الذاتية حتى يبقى مؤديا لدوره تماما كما هو مطلوب. وإلا فإنه لا يعقل أن تبقى دولة مضى على وجودها أكثر من 80 عاما تبقى دولة طفيلية تعتمد على القروض المستمرة والمساعدات الخارجية لسداد هذه القروض. فهناك دول أصغر حجما من الأردن وأحدث عمرا، وأكثر تعقيدا قد تخطت أزماتها وتمكنت من بناء كيانها بناء صلبا.
من هنا فإن الحالة التي تعيشها الأردن حالة غير طبيعية مطلقا. فهي تعيش أزمة خانقة بل إن أزمتها هي أزمة متعلقة بكيانها واستمرار العيش الطبيعي فيها وبالتالي تمويل وجودها. وكلما تلكأ الممول في تمويل كيان الأردن أحس الناس بالأرق والمأساة والضنك.
ومقابل المأساة التراجيدية، وصعوبة بل وربما استحالة الخروج من المأزق، تبدو حركة الشارع وردات الفعل المتفاوتة القوة والتأثير، تبدو كملهاة شكسبير "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا" وملهاة هنري الخامس أو ملهاة يوليوس قيصر. حيث برع شكسبير في تصوير كيف تقابل مأساة شعب وأمة بملهاة من الشعب نفسه. فالشعب في الأردن خلال حياة الدولة استطاع أن يطيح بحكومات كان آخرها حكومة الملقي، ولا يستبعد أن يطيح بحكومة الرزاز، إلا أن هذا كله لم يَعْدُ أن يكون ملهاة أشبه بتلك التي رسمها شكسبير.
ولكن الواقع الذي جعل من الأردن دولة بلا أركان، وكياناً بلا مقومات، وحكومة بلا إرادة - هذا الواقع يبقى هو المأساة الحقيقية وهو سبب كل ما يحس به الناس من ضنك العيش ورداءة الأحوال وتردي سبل العيش، وهو الذي يجب الإطاحة به من أجل أن تنتهي المأساة وتلتغي معها الحاجة إلى الملهاة. وهذا الواقع هو وحده المسؤول عما يعاني منه الإنسان في الدولة، وهو عينه الواقع الذي أدخل المنطقة كلها من المحيط إلى الخليج في دوامة مأساوية لا تكاد تنتهي.
لذلك كله كان العمل على إنهاء المأساة واجتثاث الفقر، وقلع الفساد، والتحرك نحو نهضة شاملة، يبدأ من إدراك الواقع الذي أدى إلى هذه الحالة، ثم العمل على بصيرة، وبطريقة واضحة محددة، وبناء على فكر نير مستنير، من أجل تغيير هذا الواقع وبناء دولة ذات أركان، ولها معالم واضحة وعنوان، يكرم فيها الإنسان، ويحكم فيها بالعدل والإحسان، ويكون الحكم فيها للرحمن.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد الجيلاني